Wednesday, November 02, 2005


المعارضة والسلطة.. اختلاف موقع ووحدة منطق

السيد كامل الهاشمي

مجلس الكرامة-البحرين
2 نوفمبر 2005م

قال تعالى على لسان نبيه موسى (ع)في ما حكاه من منهجية فرعونية في الإضلال والإغـواء: ) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ( [يونس 88].
وقال سبحانه في ثنايا حديثه عن الإغواء والإضلال اللذين تعرض لهما بنو إسرائيل في مرحلة تالية وبعد خلاصهم من فرعون وجنوده: ) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي w قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ w فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ w أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً w وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمْ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي w قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ( [طه 86-91].
رغم التباين الذي يفترض وقوعه وتحققه بين السلطة والمعارضة من أجل أن تتصارعا وتتواجها، إلا أنه كثيراً ما ينتهي الحفر في أعماق الاثنتين إلى ملاحظة توافقات غريبة بينهما في الكثير من الأمور، وأقلها التوافق في المنطق العقلي وطريقة التفكير والنظر إلى الأمور، وتتشخص التجربة اليهودية في زمن نبي الله موسى (ع) كأفضل شاهد تاريخي على وجود هذه التوافقات المخفية في منهجية التفكير بين السلطة والمعارضة، رغم كل التباينات الظاهرية البارزة التي تحكم العلاقة بينهما على مستوى الأداء السياسي والتحرك الاجتماعي، وهو الأمر الذي يفصح عنه النصان القرآنيان المتقدمان.
ففي النص القرآني الأول يتم إبراز الزينة والأموال بوصفها الآليات التي يستخدمها فرعون وملأه لإضلال بني إسرائيل وإغوائهم بحكم ما تتوفر عليه من قدرة تضعف أكثر النفوس عن مواجهتها، ولكن المفارقة تأتي في النص القرآني الثاني حينما نكتشف أن هذه الآلية نفسها يتمّ استخدامها من قبل السامري بطل عملية الإغواء والتضليل في المرحلة الثانية، حينما يعمد إلى اغتنام فرصة غياب موسى (ع) بما يمثله من ثقل المرجعية التأسيسية ليخرج على بني إسرائيل بأطروحة مغوية ومضلة تستخدم نفس آلية الإغواء السابقة، ولكن ضمن سياق آخر، وهو السياق الذي يدخل بني إسرائيل إلى أجواء الفتنة من دون شعور ووعي، وفي هذا الشأن يقول الطبرسي في مجمع البيان، ج7، ص49: (قال مقاتل: لما مضى من موعد موسى خمسة وثلاثون يوما، أمر السامري بني إسرائيل أن يجمعوا ما استعاروه من حلي آل فرعون، وصاغه عجلا في السادس والثلاثين، والسابع، والثامن، ودعاهم إلى عبادته في التاسع، فأجابوه. وجاءهم موسى بعد استكمال الأربعين. قال سعيد بن جبير: كان السامري من أهل (كرمان)، وكان مطاعا في بني إسرائيل. وقيل: كان من قرية يعبدون البقر، فكان حب ذلك في قلبه. وقيل: كان من بني إسرائيل، فلما جاوز البحر نافق. فلما قالوا: (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) اغتنمها، وأخرج لهم العجل، ودعاهم إليه، عن قتادة).
ومن خلال هذا الشاهد التاريخي نريد القول لكل المعارضات التي تقف في مواجهة السلطات المستبدة: أن ما ينبغي العمل عليه بكل جد واجتهاد هو تغيير البنية التفكيرية للجماهير، وهو الأمر الذي يقاس به نجاح أيّة معارضة في سعيها وعملها، وتعجز المعارضة عن تحقيق ذلك حينما تكون هي في منطقها وتفكيرها وممارساتها صورة أخرى عن السلطة التي تحاربها وتنافحها وتناكفها العداء، مما يجعل من الاثنتين وجهين لعملة واحدة.

تجربتنا بين القرارات الطائشة والقرارات القاتلة
(إن انهيار أمة عريقة قد يحصل بسبب أخطاء يرتكبها شخص واحد من أبنائها. فهذه الأخطاء من شأنها أن تشجع قادتها على تخدير عامة الشعب بإعطائه نصف الحقيقة. وأن تمارس الصحافة دورها في تعميق حالة عدم الاكتراث. كما تساعد الشعب على خداع نفسه وذلك بإقناع المواطنين بالاهتمام والتركيز في حياتهم على المواقف المضحكة والتسليات التافهة للهروب من الواقع المرير) [وليام ج ليدرر: أمة من الغنم، ص21].
لعلّي أجد في هذه الكلمة التي بدأ بها مؤلف الكتاب المذكور كتابه ما يغنيني عن قول الكثير مما أريد قوله في ما يرتبط بوضعنا الحالي، والذي وصل إلى مستوى مؤسف من التدني على المستويين الرسمي والشعبي، لاسيما في ما يتعلق بالقرارات الطائشة أو القاتلة التي تتخذ من قبل من يسبغون على أنفسهم سمات الرمزية والزعامة، أو تسبغ عليهم من جموع المغفلين التي تتحرك إلي مذبحها ومقتلها عبر سكوتها عن هذه القرارات والسماح بتمريرها، والأدهى والأمر عبر الإعجاب بها والتصفيق لها في بعض الأحيان، وهو ما يجعل من هذه الجموع مجرّد قطيع يمتثل الأوامر وينفذ القرارات من دون مساءلة ووعي.
وفي ما يرتبط بأصحاب القرار في مجتمعنا نريد القول: من يريد أن يتخذ قراراً، ولاسيما حينما يكون القرار خطيراً ومتعلقاً بأمة بأكملها عليه أن يكون دقيقاً في قراراته، فمن الواجب عليه أن يفكر أولاً، ويشاور ثانياً، ويقرر ثالثاً، وحينما يفتقد القرار هذه الآليات فسيكون إما قراراً طائشاً وغير مدروس، وإما سيكون قراراً قاتلاً ومهلكاً، وفي الحالتين ستكون التداعيات تداعيات سلبية تحقق من الخسائر أكثر مما تحقق من الأرباح، ورغم أن القرارات الطائشة التي تتخذ من الصف الحكومي الرسمي، وكذا القرارات القاتلة التي تتخذ من الصف الشعبي المعارض دائماً ما تطرّز وتوشح بلبوس الحكمة والدراية وبعد النظر والخبرة الطويلة، إلا أن هذه المواصفات لا تعدو أن تكون في واقع الأمر مجرّد شعارات تبسيطية فارغة، تريد أن تجعل من عملية اتخاذ القرار طبخة جاهزة معروفة المكونات ومحدّدة المقادير، يمكن لأي غبي أن يطبخها مدعياً توفره على كل مقومات الحكمة في الفكر، والإصابة في الرأي، والاستقامة في الطرح، وهي مقومات لو توفر أقلّ القليل منها عند من يتخذون القرارات الكبرى في مجتمعنا لما عشنا هذا الوضع المزري الذي نعجز عن التحول عنه في كل مرّة نحاول الإصلاح والتغيير.
ولو أن الأمر اقتصر على الجانب الحكومي لهانت القضية، ولكن المشكلة تكمن في ضعف الطالب والمطلوب، كما ألمح الباري تعالى في ما أفصح عنه من طبيعة اجتماعية تحكم عملية تلقي القرارات الخاطئة وتسهم في ترسيخ تداعياتها السلبية في ما حكاه من شأن فرعون وقومه بقوله عزّ وحلّ: ) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ w فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ( [الزخرف 54-55].
إن الخطر الحقيقي والكبير لا يكمن في اتخاذ القرار الخاطئ وحسب، وإنما يكمن أكثر ما يكمن حينما يجد القرار الخاطئ أرضية لقبوله وتمريره وتجميله وترويجه، إذ هنا -ومن خلال ذلك- يتحقق الاستخفاف من طرف صاحب القرار، والتسليم والطاعة من قبل المعنيين بالقرار، ومن المحتم حينئذ أن يكون الغرق من نصيب الاثنين معا، كما قال سبحانه وتعالى: ) فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (، وفي ضوء استمرارنا في اتخاذ القرارات الخاطئة وترويج الماكينة الإعلامية الرسمية والشعبية لهذه القرارات وكأنها وحي منزل من السماء ) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ( [فصلت 42]، فإن علينا الاستعداد لمواجهة ما هو الأسوأ من الأيام التي لم نعشها بعد.

مملكة دستورية بصلاحيات ملكية مطلقة
يزعم الفلاسفة والمنطقيون وأهل المعقول أن القواعد العقلية لا تقبل التخصيص، ولا تخضع للاستثناءات، وأهم قضية يقيمون عليها كل منظومة التفكير العقلي البرهاني عندهم هي قضية: "إن النقيضين لا يمكن اجتماعهما، ولا يمكن ارتفاعهما في شيء واحد من جهة واحدة"، ولأهمية القضية اعتبرها بعضهم "أولى الأوائل"، فهي أول قضية عقلية يدركها الإنسان بالبداهة، ولكن المؤسف أن كل هذا التأسيس الفلسفي والعقلي الذي أتعب فلاسفة الشرق والغرب أنفسهم من أجل إثباته، وتوافقوا عليه منذ آلاف السنوات، لم يصمد أمام تناقضات الممارسة السياسية لدي السلطات الرسمية في عالمنا العربي، والتي أضحت تجمع -ولاسيما في مسارها الحديث- بين النظام الجمهوري والحكم الوراثي، وبين الديمقراطية والاستبداد، وبين الالتزام بكون الإسلام المصدر الأساسي أو الوحيد للتشريع وبين السماح بالدعارة وبيع الخمور وفتح المراقص والبارات تحت إشراف الدولة ورعايتها.
وآخر تلك التقليعات التي نسف النظام العربي الرسمي من خلالها ذاك القانون الفلسفي العتيد من رأس، هو ما جاءنا من آخر الممالك الدستورية التي أنعم بها الباري علينا، والتي توافق الناس فيها مع السلطة الحاكمة أن ينتقلوا من ضفة الإمارة والحكم المطلق إلى ضفة الملكية الدستورية والحكم المقيد بمبادئ دستورية متوافق عليها بين الشعب والحكم، ولكن المفاجأة جاءت لتقر الملكية الدستورية كنظام حكم في الوقت الذي يعطي الدستور الجديد صلاحيات للملك أوسع من صلاحياته يوم لم يكن يحكم عبر مملكة دستورية، وهنا العجب الذي لن يتبين لا في شعبان ولا في رجب، وإليك أخي المواطن هذه الصلاحيات كما هي مثبتة في دستور جيء به بليل في مملكة دستورية معلنة على رؤوس الأشهاد:
صلاحيات الملك كما حددها الدستور (المنحة) الغير عقدي:
1- السلطة التشريعية يتولاها الملك و المجلس الوطني وفق الدستور. 2- يتولى الملك السلطة التنفيذية مع مجلس الوزراء. 3- يحمي الملك شرعية الحكم وسيادة الدستور والقانون ويرعى حقوق الأفراد والهيئات وحرياتهم. 4- يعين الملك رئيس الوزراء ويعفيه من منصبه بأمر ملكي. 5- يعين الملك أعضاء مجلس الشورى و يعفيهم بأمر ملكي. 6- يرأس الملك المجلس الأعلى للقضاء ويعين القضاة بأوامر ملكية. 7- للملك حق اقتراح تعديل الدستور واقتراح القوانين ويختص بالتصديق على القوانين. 8- للملك أن يستفتي الشعب في القوانين والقضايا الهامة التي تتصل بمصالح البلاد. 9- للملك أن يمدّد الفصل التشريعي لمجلس النواب عند الضرورة بأمر ملكي مدة لا تزيد على سنتين. 10- للملك حق تأجيل إجراء انتخاب المجلس الجديد إذا كانت هناك ظروف قاهرة. 11- إذا استمرت الظروف القاهرة جاز للملك إعادة المجلس المنحل ودعوته للانعقاد وتعتبر الدورة التي يعقدها أول دورة. 12- يدعي كل من مجلس الشورى و النواب بأمر ملكي إلى اجتماع غير عادي إذا رأى الملك ضرورة لذلك. 13- للملك أن يؤجل اجتماع المجلس الوطني لمدة لا تتجاوز شهرين ولا يتكرر التأجيل في دور الانعقاد الواحد. 14- الملك يعين أعضاء المحكمة الدستورية ويختص بمراقبة دستورية القوانين واللوائح، وللملك أن يحيل إلى المحكمة ما يراه من مشروعات القوانين قبل إصدارها لتقرير مدى مطابقتها للدستور ويعتبر التقرير ملزما لجميع سلطات الدولة. 15- الملك يعلن حالة السلامة الوطنية والأحكام العرفية بمرسوم، والمدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر. 16- ينشأ قانون ديوان الرقابة المالية ويكفل القانون استقلاله ويعاون الحكومة ومجلس النواب في رقابة تحصيل إيرادات الدولة وإنفاق مصروفاتها في حدود الميزانية.

اختبارات التجربة السياسية
حينما يكون أصحاب أيّة دعوة في خارج موقع السلطة فإنهم يرفعون الكثير من الشعارات التي يدعون من خلالها إلى مشروعهم، ولكن الاختبار الحقيقي لهذه الشعارات إنما يكون حينما تتاح الفرصة أمام أصحاب هذه الشعارات لتنفيذها، يقول تعالى : ) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ® ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( [يونس 13-14] .
وحول نفس هذا الاختبار يخاطب الله عزّ وجلّ بني اسرائيل بالقول : ) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ® قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( [الأعراف 128-129] .
ولكن من كانوا في موقع المعارضة ونقد السلطة القائمة يستعيدون أخطاء الماضي التي كانت تبرر لاستمرار الاستبداد وحكم الطاغوت، وهو ما يفصح عنه القرآن الكريم حينما يستذكر سلوك بني اسرائيل في مرحلة تالية فيقول سبحانه : ) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ® وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ® إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ® قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( [الأعراف 137 - 140] .
ويؤكد سبحانه وتعالى إمكانيّات الانحراف التي يمكن أن تطرأ على المجتمع حتى بعد تحرّره من الطاغوت، مفصحاً عن عمق الأزمة التي تعيشها الأمة والمتمثلة في رغباتها المكبوتة في الإنحراف والانفلات فيقول عزّ من قائل : ) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ ® وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( [الأعراف 148-149] .
وفي ظلّ هذه التقلّبات التي تعيشها الأمة في ظروف ما بعد الانتصار يفتعل السفهاء من الأمة الكثير من الأدوار الخطيرة التي يمكن أن تضيّع كل الجهود المستحصلة في الفترة السابقة والتي بذلت من أجلها الكثير من الجهود والتضحيات، وهو ما يمكن استفادته ممّا يحكيه تعالى من فعل السفهاء من قوم موسى (ع) إذ يقـول : ) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ® قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ® إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ® وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ® وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ® وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ( [الأعراف 150-155] .
البحرين وتجربة الإصلاحات الجديدة
س1: ما هي مواطن الخلل في العمل السياسي في البحرين عند الحكومة والجمعيّات السياسية؟ ما اعتقده أن الخلل أو الخطأ ربما يكون سمة لا ينفك عنها عمل الإنسان بشكل عام، ولذلك ليس هناك مشكلة أساساً في وقوع الأخطاء، وإنما المشكلة تكمن في عقلية التعامل مع الأخطاء، وما نريده في بداية تجربة الإصلاح الجديدة التي تنجزها البحرين حكومة وشعباً أن لا يكون لديها خلل في التعامل مع الأخطاء فتعطيها أكبر من حجمها، أو أن تشتغل بشيء غير ذي أهمية على حساب المهم والأولى، والجمعيات السياسية لأنها وليدة ومستجدة في الواقع السياسي والاجتماعي في البحرين في عهد الإصلاح والانفتاح لا نتوقع منها أن تقدم أكثر مما هو بمقدورها، ثم إن تطوير العمل السياسي والاجتماعي وحتى الثقافي هو ليس من شأن الجمعيات السياسية فحسب، بل هي مهام على المجتمع بكل أفراده وقدراته أن يساهم في تحقيقها، وعن طريق ذلك التعاون والتكاتف يمكن أن نتجاوز الأخطاء التي يمكن أن تواجه مسيرتنا سواء ضمن مستواها الرسمي أو الشعبي.
س2: ما هي إنجازات المعارضة منذ إشهار الجمعيات حتى الآن؟ كما أشرت في الجواب عن السؤال السابق أن الجمعيات السياسية في البحرين لم يتجاوز عمرها العام الواحد أو ما يقاربه، وهذه المدة ليست بكافية للحكم على أداء أيّة جمعية، والمهم أن المسار الذي سارت فيه الجمعيات خلال هذه المدة يمكن أن يعتبر في الاتجاه الصحيح نحو تطوير أداء سياسي فاعل ومتزن في علاقة الجمعيات السياسية -التي تعتبر من أهم مؤسسات المجتمع المدني- مع المؤسسات الرسمية من جهة ومع قوى المجتمع الأهلي من جهة أخرى، إن هذا التوازن في العلاقات الذي يفترض أن تعمل على تحقيقه الجمعيات السياسية في واقعنا البحريني هو ما سيضمن لها قدرة على التكيف مع متطلبات المرحلة، وهو الإنجاز الأهم الذي ينبغي لكل الجمعيات السياسية أن تعمل على تحقيقه في واقعنا الراهن.
س3: ما هي الاستراتيجيات المستقبلية لعمل الجمعيات؟ لا أستطيع أن أتحدث بالنيابة عن الآخرين، ولكنني أرجو أن تعمل الجمعيات السياسية كلها على التنسيق بين مواقفها من مختلف القضايا الوطنية، كما أن من أهم الأولويات في عمل الجمعيات في الظرف الراهن كما أعتقد هو التحرك بكل جدية من أجل تفعيل مهام المشاركة الشعبية في الشأن السياسي العام، والعمل على تطوير العمل الشعبي باتجاه الحفاظ على مكتسبات المرحلة وإثرائها وزيادة دور الرصيد الشعبي في صياغة القرار السياسي بما يحقق الإنسجام المطلوب بين المجتمع السياسي والمجتمع الأهلي.
س4: ما هي رؤيتكم لتطوير العمل السياسي والاجتماعي والثقافي؟ إذا ما أردنا تطوير الأداء العام في المجالات المذكورة أرى من اللازم مراعاة الأمور التالية: 1- العمل على اكتشاف القدرات والطاقات المتوفرة والتي ربما تكون معطلة وغير فاعلة. 2- السعي لبلورة استراتيجيات متكاملة لبناء القدرات المطلوبة لمختلف المجالات الحياتية في الدولة. 3-فتح المجال للابتكار والإبداع من خلال الحفاظ على أجواء الحرية والشفافية ومتطلبات التعايش المشترك. 4- رفع الموانع والعوائق التي تحدّ من إمكانيات تطوير العمل الوطني المشترك.
س5: كيف تعمل الجمعيات السياسية على ترتيب بيتها الداخلي؟ يمكنها أن تحقق هذا الأمر من خلال استجماعها وفهمها لمتطلبات العمل التطوعي والذي يقتضي توفر مستلزمات لا يمكن من دونها القيام بمتطلبات العمل الاجتماعي والسياسي التطوعي، ولعل أهمها العمل بروح الفريق الواحد، والانفتاح على أعضاء المجموعة، والتشاور معهم في ما يهمهم، وتحديد وتوضيح الاستراتيجيات المتبعة في إدارة العمل التطوعي، والتواصل مع المقتضيات الكلية للمصلحة العامة التي لا تستهدف شيئاً سوى خدمة هذا البلد الطيب وأهله.
النفاق السياسي.. الممارسة الممهدة للاستبداد السياسي
قال الله تعالى في شأن المنافقين: ) إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ w اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( [المنافقون 1-2]. رغم أن ما يشهد به المنافقون حق لا مرية فيه، ولكن الله يرفض هذا النفاق السياسي لأنه يتخذ من التظاهر بالإيمان وسيلة للصد عن سبيل الله وخداع الناس، وأسوأ مظاهر النفاق السياسي ذاك الذي يقوم به البعض من أجل إيجاد أصول الاستبداد السياسي في النفس القابلة لممارسته، فالحاكم السيئ والغبي يفرح حينما يجد من يكيل له المدح والثناء، ويسبغ على كل تصرفاته سمات المشروعية والحكمة والتعقل.
وقد اقترب الإسكندر المقدوني من الوقوع في آفة الاستبداد (عندما أزمع على اقتباس عادة فارسية هي السجود التي كان يتعين بمقتضاها على جميع من يقتربون من الملك أن يؤدوها! غير أن هذا الأمر كان يعني في نظر اليونانيين والمقدونيين عبادة حقة للإمبراطور وهو أمر لم يألفوه من قبل. ولقد كان الإسكندر على بينة من الموقف، وذلك لا يعني سوى شيء واحد وهو أنه أراد تأليه نفسه، أراد أن يصبح إلها بالفعل.وعندما ابتدع الإسكندر عادة السجود هذه، تطورت الأمور على نحو غير منتظر، فقد عارضها المقدونيون بشدة. وأظهر البعض استياءه وغضبه، بل إن أحد قواده فعل ما هو أسوأ من المعارضة، فعندما سمع بمطلب الإسكندر استولت عليه نوبة من الضحك! وأخيرا اتفقوا معه على أن يقصر هذه العادة الآسيوية على الآسيويين فقط!. وكان الإسكندر قد أوتي قدرة فائقة على الإحساس بما هو ممكن من الأمور فأسقط السجود من حسابه نهائيا) [إمام عبد الفتاح إمام: الطاغية.. دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي، ص 40]. ولكي لا يقع صاحب السلطة نفسه في إشكالية الاستبداد ويبقي نفسه بعيداً عنها، فقد حث الله تعالى نبيه الكريم على ضرورة قول كلمة الحق وتقديم النصح الصريح من قبله للآخرين، فقال تعالى في ما خاطب به رسول الله (ص): ) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ( [الكهف 28]، وقال تعالى: ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً w فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً w أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ( [النساء 61-63]. وللتحذير من النفاق السياسي قال علي (ع): (فلا تثنوا علي بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لابد من إمضائها، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة. ولا تخالطوني بالمصانعة. ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي. فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه. فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني. فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره. يملك منا ما لا نملك من أنفسنا، وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا عليه، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى، وأعطانا البصيرة بعد العمى) [نهج البلاغة، الخطبة216].
ثلاث تجارب سياسية ناجحة
الوضع القائم اليوم في العالم الإسلامي يكشف وبعد طول امتحان وعسر ولادة أن ثمة مساراً جديداً بدأ يبرز للساحة ضمن معادلات ومواصفات غير متوقعة، يبدو فيها الشيعة كعنصر فاعل ومؤثر في صياغة مستقبل هذا العالم، بعد نجاحات متوالية استطاع التشيع أن ينجزها على مستويات متعددة، تحتاج إلى توقف وتأمل مقرونين بمحاولة فحص وتحليل تبتغي النفاذ إلى العمق من أجل تفسير هذه النجاحات المتتالية وعلى أصعدة متنوعة، وهذه النجاحات المعنية هي:
1- الدولة الإسلامية في إيران (تجربة الدولة): الكيان السياسي الأوسع في المجال البشري الاجتماعي هو الدولة، والدولة والسلطة كانتا على الدوام حاضرتين في التفكير الشيعي، بل يمكننا القول أن تفكير الشيعة في مسألة الحكم والسلطة هو ما شكل المعلم الأبرز في تمايزهم، إن على المستوى العقيدي، وإن على المستوى الاجتماعي والسياسي، وإن على المستوى الحركى عن عامة المسلمين الذين لم يبلوروا موقفاً محدّداً وحاسماً من مسألة السلطة في جزئياتها وتفاصيلها بالرغم من ممارستهم مهمة الحكم السياسي في مقابل جنوح الشيعة أكثر إلى تمثل دور المعارضة، ولكن بالرغم من ذلك فإن الشيعة استطاعوا عبر تجربة الدولة الإسلامية في إيران أن يثبتوا أنهم يمتلكون قدرة أكبر على تشكيل دولة تتوافق مع قناعاتهم ورؤاهم، وأن يبقوها تواجه أكبر التحديات من دون أن تسقط أو تنتكس.
2- حزب الله في لبنان (تجربة المؤسسة): استطاع حزب الله اللبناني أن يبدي كفاءة عالية واقتداراً مهنياً واحترافاً عسكريا وسياسياً في مواجهة أعتى القوى في عالمنا المعاصر، وأثبت نجاحاً متميزاً لأول مرة ربما في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي من خلال القدرة على إدارة الصراع مع الكيان الصهيوني بشكل احترافي يخضع المواجهة لقوانين الحرب السياسية والعسكرية والإعلامية والنفسية الناجحة، من دون أن يستجرّ إلى ارتكاب أخطاء في تحديد الأولويات، أو تغيير الاستراتيجيات والتكتيكات، أو بناء التحالفات، ولذلك وفّق للنجاح والتميز لكي يحصد نجاحاً آخر للتشيع على مستوى القدرة على إدارة المؤسسة والحزب والجماعة.
3- المرجع السيستاني في العراق (تجربة الفرد): وأخيراً نأتي للنجاح السياسي الباهر والرائع الذي حققه التشيع من خلال عنوانه الأهم والأبرز والمتمثل في رأس المشروعية الدينية والسياسية عند الشيعة، وهو مقام المرجعية الدينية الذي مثلته شخصية وحركة سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني، في ما تبناه من موقف بشأن إدارة العملية السياسية في العراق بعد سقوط طاغية البعث، والذي تمحور عبر الإصرار على إجراء الانتخابات لاختيار أعضاء الحكومة رغم كل التحديات التي كانت تحيط إجراء هذه المهمة، وهذا الموقف له أهميته حينما نضمه إلى الموقفين المتقدمين، إذ هو يعطي انطباعاً بالقدرة المتميزة للتشيع على إدارة متطلبات السلام والحوار بالمستوى الذي يدير متطلبات الحرب والمواجهة.
إخفاقات السلفية التكفيرية: لا يمكننا أن نستكمل صورة التحليل لهذه النجاحات الشيعية الكبرى في العصر الحديث، إلا من خلال مقارنتها بالإخفاقات المتتالية للإسلام السلفي في العصر الحديث أيضاً، فلقد أخفقت السلفية الدينية عند أهل السنة في إنجاح أيّ مشروع سياسي لها في العصر الحديث، بل أجهضت في المقابل ثلاث فرص كبرى أتيحت أمامها، الأولى تمثلت في تجربة الدولة السعودية الحديثة التي خرج من رحمها تيار الإرهاب والتكفير، والثانية تجربة الحكم الإسلامي في السودان عبر تجربتي الصادق المهدي وحكومة الإنقاذ، والثالثة والأخيرة هي تجربة الحكم الإسلامي في إفغانستان التي قادتها جماعة "طالبان"، وهي التجربة الأسوأ من بين هذه التجارب السلفية الثلاث.
دور الجماهير في المسألة الدستورية
مستقبلنا بين الاحتراف السياسي والاحتراق السياسي
قال الإمام علي (ع): (لنا حق إن أعطيناه وإلا ركبنا أعجاز الإبل وإن طال السرى) [عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص 420]. حديثنا عن دور الجماهير سيكون ضمن ثلاثة محاور:
المحور الأول: حينما نريد الحديث عن دور الجماهير في تحقيق إرادة التغيير علينا أن نثير الأسئلة المزعجة التالية: س1: لماذا نعجز كأفراد وكجماعات عن اكتشاف وفهم منطق التغيير، ولذلك نعجز عن تحقيق التغيير في حياتنا مهما طال بنا العمر؟ س2: لماذا تعجز بعض الأمم عن فهم منطق التغيير والعمل بمقتضياته، بينما تنجح أمم وشعوب أخرى في ذلك؟ س3: هل الحديث عن التغيير هو حديث تنظيري؟ أم هو ممارسة تدريبية يكتسب الإنسان عبرها القدرة على تحقيق التغيير في ذاته وفي الآخرين؟ وإذا ما عجزنا عن تقديم إجابات مقنعة على هذه الأسئلة فمعنى ذلك أننا لم نفهم معادلة التغيير، وهذا يعني أننا مازلنا لا نعمل في ميدان السياسة كمحترفين، وإنما كهواة لا يريدون الالتزام بقواعد ومقررات في لعبتهم السياسية، وكلما قلّل الإنسان من قواعد اللعبة أو عمل على تجاوزها فمعنى ذلك أنه يريد تحويل الممارسة السياسية إلى عبثية ينجر من خلال مواصلتها والاستمرار فيها إلى الاحتراق، وهو ما بيّن الله تعالى أنه النتيجة التي ينتهي إليها العبث في المجال الحياتي في ما يمارسه بعض الناس من عمل يستهدف الجماهير فقـال: ) يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء w أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ w جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ( [إبراهيم 27-29].
المحور الثاني: تتحرك الجماهير في كل مرحلة من أجل نيل استحقاقاتها والدفاع عن رغبتها في تحقيق متطلبات الحياة الكريمة، ومن أجل أن تفعل ذلك وتصل إلى مرادها لا مناص من أن تلتزم القواعد التالية في العمل الجماهيري:
القاعدة الأولى: تحديد المتطلبات وترتيب الأولويات.
القاعدة الثانية: ضرورة استدامة المطالبة واستمرارها.
القاعدة الثالثة: تنسيق مسارات العمل الجماهيري.
القاعدة الرابعة: لا مجال للاشتغال بملفات يفرضها الآخر.
القاعدة الخامسة: لا مجال لتوقع نتائج إيجابية من مقدمات سيئة.
وهذه هي قواعد النجاح والفوز في أيّة معركة نريد خوضها بكفاءة واقتدار، وهي القواعد التي ألمح الإمام علي (ع) إلى ضرورة التزامها يوم أن أعطى الراية لابنه محمد بن الحنفية في يوم الجمل مخاطباً إياه بالقول: (تزول الجبال ولا تزل، عض على ناجذك، أعر الله جمجمتك، تد في الأرض قدمك، أرم ببصرك أقصى القوم، وغض بصرك، واعلم أن النصر من عند الله سبحانه) [نهج البلاغة، الخطبة 11].
المحور الثالث: ضرورة أن تتحول المعارضة إلى "كتلة حرجة" في اتخاذ القرار السياسي للسلطة، والمقصود من الكتلة الحرجة المجاميع المعارضة في داخل الكيان السياسي الواحد والتي تتجاوز نسبتها الـ 5٪، وهي تملك قدرة التأثير وإرباك المسار السياسي للسلطة، مما يلزم السلطة أن تعني بشأنها وأن تعمل على استقطابها قبل أن تستجرها إلى خيار الحسم والمواجهة معها، وربما لا تفضل السلطات في كثير من الأحيان خيار المواجهة لمعرفتها بأن المعارضة حينما تنجح في التحول إلى كتلة حرجة، فمعنى ذلك أنها قدرت على اكتساب الرأي العام وتوجيهه لصالحها، وربما فوق ذلك نجحت في إرباك حتى من هم في دائرة السلطة.
العقلانية السياسية بين خطاب التحريض وخطاب الترويض
كيف نؤسس لممارسة العقلانية السياسية في حركة رجل الشارع؟ أو كيف نبني مجتمعا من المواطنين الملتزمين؟ وكيف يمكن للأفراد أن يلتزموا عملياً بالموازنة بين حقوقهم وواجباتهم في إدارة شؤونهم العامة والخاصة؟ قد تبدو الإجابة على هذه الأسئلة المفتاح الذي من خلال استخدامه يمكننا الولوج عبر بوابة العقلانية السياسية إلى المجتمع الحرّ العادل، وهو المجتمع الذي جعلت إقامته وتأسيسه الغاية النهائية في الحياة الدنيا من وراء كل الرسالات والنبوات فقال تعالى: ) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( [الحديد 25]. ولكن تحقيق "العقلانية السياسية" يبدو أمراً بعيد المنال في تجاربنا السياسية العربية والإسلامية، ولاسيما في ظل بقاء نوعين من الخطاب السياسي يتجاذبان عقل وإرادة وحركة المواطن من دون أن يتمكن -هذا المواطن- من الخروج عن هذا التجاذب باستحداث تبعية واعية لخطاب جديد متوازن ومنضبط وعقلاني يعمل على إحداث التوازن المطلوب في الممارسة السياسية العامة بين ضرورات التحريض ورغبات الترويض، وهي الضرورات والرغبات التي يستخدمها طرفا المعادلة السياسية (السلطة والمعارضة) في عالمنا العربي الإسلامي أسوأ استخدام، وبالخصوص من بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وفي ضوء هذا التجاذب فقد أضحت أنظمة الفعل السياسي المتضاربة في عالمنا العربي والإسلامي تشتغل بالشكل التالي:
1- نظام الفعل السياسي القائم على خطاب الترويض: وهو النظام الأكثر فاعلية وحضوراً في الخطاب السياسي المنتج والمروج من قبل السلطة والدولة، وهو استعادة ممقوتة ومكروهة للخطاب الفرعوني المحكي في قوله تعالى: ) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ w أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ w فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ w فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ w فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ( [الزخرف 51-55].
2- نظام الفعل السياسي القائم على خطاب التحريض: وهو الخطاب الذي اعتادت المعارضة أن تلتزمه في غالب أوقاتها وأحوالها، مما حول دورها إلى معارضة تفكيكية يمكن لها أن تسهم في زعزعة الكيان السياسي الحاكم وإقلاقه، ولكنها لا تنجح بالضرورة في فهم متطلبات الترويض التي تستدعيها الضرورات الوطنية والمصالح العامة في أحيان كثيرة، مما يتوجب عليها أن تمارس مهمة تركيبية تتنازل فيها عن غرورها وكبريائها لصالح الآخرين ممن يشاركونها الوطن والمصير، وهو الموقف الذي أعطانا الإمام أمير المؤمنين (ع) درساً بليغاً في متطلباته حينما قال بعد سلبه حقه في الخلافة للمرة الثالثة وبعد أن عزم القوم على مبايعة عثمان: (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسلِّمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة التماسا لأجر ذلك وفضله، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه) [نهج البلاغة، الخطبة 74].
3- نظام الفعل السياسي القائم على خطاب العقل: وهو الخطاب الأكثر فرادة وندرة وصعوبة واحتياجاً له في وضعنا الراهن، وصعوبة هذا الخطاب تكمن في متطلباته الخاصة التي تقتضي توازناً دقيقاً بين العقل والعاطفة، ولأنه خطاب ثنائي التوجه فهو يمثل جوهر الإدارة العقلانية القائمة على الموازنة بين الثنائيات وإدارتها، وهو خطاب الإيمان والعقل الصادر من وعي حكيم يتمثل في ما حكاه تعالى من قول مؤمن آل فرعون: ) وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ( [غافر 28].
أي العباسينِ أنتم أيتها المعارضة؟؟؟
صورة عباس البطل صاحب المواقف الفريدة والاستثنائية المعززة بكل معاني الجرأة والكرامة هي الصورة التي ظلّت ترتسم في أذهاننا وتناغي مشاعرنا كلّما ذكر اسم "العباس"، الشخصية التي قرن القدر بينها وبين أبي الأحرار سيد شباب أهل الجنة الحسين الشهيد (ع)، فكانت مثال الجندي الوفي الذي يأبى المساومة والمزايدة على الكرامة والذل، اقتداء بقائده الملهم الذي وضع حجر الأساس لهذا المبدأ يوم أن قال: (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنين وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ألا وإني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وخذلة الناصر).
وهكذا تشكلت الشخصية العباسية التي يمكن أن تتحمل كل شدة وعناء ومصيبة ولكنها تأبى وترفض أن تقبل ولو حالة بسيطة من حالات الذل والهوان، لأن هذا الأمر ليس بالحق الذي يجوز للمؤمن أن يتصرف فيه على أساس أنه حقه الشخصي يتنازل عنه حينما يشاء، وهو ما قصده الحديث عن الإمام الصادق (ع)، والذي يقول فيه: (إن الله تبارك وتعالى فوض إلى المؤمن كل شيء إلا إذلال نفسه)، وفي حديثه الآخر يقول: (إن الله عز وجل فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يكون ذليلا، أما تسمع قول الله عز وجل يقول: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين" فالمؤمن يكون عزيزا ولا يكون ذليلا، ثم قال: إن المؤمن أعز من الجبل إن الجبل يستقل منه بالمعاول والمؤمن لا يستقل من دينه شيء).
والاستحمار الذي تؤسس له السلطة في مملكة البحرين الدستورية عبر ما تصدره من دساتير وتسنه من قوانين وتشرعه من مراسيم هو أسوأ حالات الذل والهوان التي لا يصح السكوت عليها والرضى بتمريرها، إلا أن نستبدل صورة الكرامة العباسية التي أبت ورفضت كل عروض الآخرين في حالات هي أسوأ من حالتنا التي نعيشها بكثير، بصورة عباسية أخرى هي نتاج عصر المهانة والذل الذي مازال العرب (حكومات ومعارضة) يرزحون تحت ثقله منذ زمن طويل، بل ويستذوقونه ويستلذونه رافضين الخروج عليه، وهي الصورة التي أجاد التعبير عنها الشاعر العراقي أحمد مطر في قصيدته المسماة "عباس"، والتي يرفع فيها لافته صارخة لكل نعاج المعارضة وتيوس الحكم بالقول:
(عباس وراء المتراس، يقظ منتبه حساس، منذ سنين الفتح يلمع سيفه،
ويلمع شاربه أيضا، منتظرا محتضنا دفه، بلع السارق ضفة،
قلب عباس القرطاس، ضرب الأخماس بأسداس، (بقيت ضفة)
لملم عباس ذخيرته والمتراس، ومضى يصقل سيفه،
عبر اللص إليه، وحل ببيته، (أصبح ضيفه) قدم عباس له القهوة، ومضى يصقل سيفه ؛
صرخت زوجة عباس: " أبناؤك قتلى، عباس، ضيفك راودني، عباس، قم أنقذني يا عباس"،
عباس - اليقظ الحساس - منتبه لم يسمع شيئا، (زوجته تغتاب الناس)
صرخت زوجته : "عباس، الضيف سيسرق نعجتنا"، قلب عباس القرطاس، ضرب الأخماس بأسداس،
أرسل برقية تهديد، فلمن تصقل سيفك يا عباس" ؟" (لوقت الشدة) إذا، اصقل سيفك يا عباس).
أجيبوني يا زعماء المعارضة أيّ العباسين تريدون أن تكونوا؟ وإلى من، وإلى متى تصقلون سيوفكم الخشبية؟ إلى وقت الشدة .. (إذا، اصقل سيفك يا عباس).