Thursday, July 19, 2007

بعض من سيرة المجاهد البحراني: سيد علي كماال الدين

كمال الدين يروي سيرة هيئة الاتحاد الوطني ودخول الشاه على الخط
حاول شاه إيران استمالته لشغر مقعد «لواء البحرين» إلا أنه رفض

http://www.alwaqt.com/art.php?aid=65601

سيرة ذاتية أو أشبه بذلك، يرويها الكاتب عن والده. سيرة شكلت في بعضها إحدى مفاصل العمل الوطني في البحرين، مثل حقبة هيئة الاتحاد الوطني في خمسينات القرن الماضي، والفتنة الطائفية التي عصفت بالبلاد، ودور المستشار شارلز بلغريف في الفتنة. كما يتوقف الكاتب عند موقف والده المنفي في النجف الأشرف ومحاولة شاه إيران استمالته وشغر مقعد ''لواء البحرين'' في البرلمان الشاهنشاهي ضاربا على وتر المنفى عبر موفديه الذين كانوا يأتون العراق تحت يافطة زيارة الأماكن المقدسة، لكنهم في حقيقة الأمر من جهاز الأمن ''السافاك''.
كتاب ''على ضفاف الوطن'' للكاتب محمد حسن كمال الدين يروي فيه سيرة والده. يبدأ الكتاب الصادر في يوليو/ تموز 2007 ويقع في 200 صفحة من القطع المتوسط ومجلد فنياً، يبدأ بتعريف للدكتور منصور محمد سرحان، فقصيدة للكاتب ''هذا والدي العظيم'' فالمقدمة.
الجزء الأول من الكتاب يحمل عنوان ''رجل الإصلاح العالم الجليل السيد علي بن السيد إبراهيم كمال الدين، يحكي فيها الكاتب قرار والده في ديسمبر/ كانون الأول 1956 باعتباره أحد قيادات الهيئة التنفيذية العليا الثمانية، وبعد شهر من اعتقال قادة الهيئة:
عبدالرحمن الباكر، عبدالعزيز الشملان، عبدعلي العليوات وعبدالله ابوذيب، محسن التاجر، إبراهيم بن موسى وإبراهيم محمد حسن فخرو.
ويعرج الكاتب على سيرة العائلة ويدخل في تفاصيل الولادات والسلالات. الجزء الثاني من الكتاب يتحدث فيه الكاتب عن والده باعتباره ''ظاهرة اجتماعية'' ثم يتوقف مليا أمام انبثاق هيئة الاتحاد الوطني ودور السيد علي كمال الدين فيها، فجزء ''الشاه يدخل على الخط''، ليلحقه بـ ''شاه إيران والخليج''، ثم ''حديث عن النفس''، ثم ''حوار على ضفاف الوطن''، ''إشعاعات من قبس والدنا''، ''الشجرة المباركة''، ''سلالة السيد علي'' وهي عبارة عن صور أبناء السيد علي وعائلته، ''فالعودة إلى الضفاف''، ويختتم الكاتب بـ ''بين الكينونة والفناء''.
الأمور في البحرين العام 1953 كانت تأخذ مسارات عصيبة، غاية في التعقيد وأن نار الفتنة الطائفية أخذ لهيبها يلسع جميع الوجود، حيث المستشار بجلريف يصب الزيت على هذه الفتنة بصورة متواصلة، وكان لابد من تدارك مثل هذه الأمور، قبل أن ينفلت الزمام، وتغرق البلاد في فتنة، الله وحده يعلم نتائجها، فتداعت جماعات كثيرة من العقلاء من الطائفتين الكريمتين وتدارسوا الأمور، لفترات طويلة، حيث توصلوا في النهاية إلى أن لا حل لمثل هذه المعضلة إلا بتعاون أبناء الطائفتين لإطفاء الحريق أولا، ثم الجلوس معا لدراسة الأسباب والمسببات، ليصلوا إلى ما يرضي الجميع، ويجمع شمل المواطنين جميعا وكم كنت فخورا بمبادرة إخواننا أبناء الطائفة السنية حين طرحوا جميع المسائل على مائدة العقلاء.
يحاول كمال الدين قراءة ما حدث أيام هيئة الاتحاد موجها وحاصدا الفتنة في المستشار البريطاني بلغريف يقول ''فسارت الأمور يا ولدي على هذه الوتيرة، اجتماع تلو اجتماع، فتوصلنا إلى أن أهم أسباب هذه الفتنة، ليس الشيعة وليس السنة وليس حاكم البلاد الشيخ سلمان يرحمه الله بل هو ذلك المستشار العنيد، والمهيمن على البلاد فهو الذي يوغر صدر الحاكم على أبناء شعبه ويخوفه دائما من الناس ليشعره بأنه هو الذي يحافظ على سلامة الحاكم والأسرة الحاكمة، كما أنه كان يكلف عملاءه بإثارة الفتن بين الطائفتين خصوصا في المناسبات الدينية ليتدخل هو بعد ذلك وكأنه يملك العصا السحرية لحل المشكلات التي تطرأ على المجتمع فقمنا بدراسة ألاعيبه وحيله وكان تحذيرنا الأول في أول لقاء لنا مع المغفور له الشيخ سلمان، هو عدم الإصغاء لأكاذيب ذلك المستشار، وعدم الوقوع في حبائله الماكرة إلا أنه في النهاية تغلب علينا ولم ينتصر علينا لأنه كالثعبان يمتلك قدرات فائقة في تغيير جلده من وقت لآخر إضافة إلى أن تلك الاجتماعات المتواصلة دعتنا جميعا إلى وضع جميع الأمور على طاولة المداولات فاستشعرنا جميعا ضرورة رفع كثير من المطالب إلى حاكم البلاد، وبحثنا عن الوسيلة الأمثل لإيصال المطالب التي نجمع عليها والتي شعرنا ساعتها بأنها مطالب شعبية''.

تأسيس هيئة الاتحاد الوطني

فاتفقنا على تشكيل هيئة تمثل البحرين بكاملها لرفع تلك المطالب إلى حاكم البلاد...، فكان ذلك الاجتماع الحاشد في قرية السنابس، وتحديدا في مسجد بن خميس في تاريخ 13/10/,1954 حيث ضم ذلك الاجتماع كثيرا من الفعاليات الوطنية والاجتماعية، ممثلين للطائفتين من جميع مدن وقرى البحرين.
سيطر على ذلك الاجتماع كثير من الحماس غير الموضوعي، ولكننا أنا والشملان والباكر والعليوات، كنا قد أعددنا ما يشه المنهج أو الخطة المعدة سلفا، والتي طرحناها بعد الانتهاء من الاستماع إلى جميع الآراء، وبعد امتصاص ذلك الحماس المتدفق من أجل الوطن، وكانت الخطة التي وافق عليها الحاضرون على الوجه الآتي:
- أولا: اختيار مئة وعشرين شخصية من الحاضرين، ليكونوا النواة الحقيقية لتمثيل الشعب البحريني، وبحيث يشكلون ما يشبه الجمعية العمومية لجبهة العمل الوطني.
- ثانيا: من هؤلاء المئة والعشرين، يتم اختيار ثمانية أشخاص أربعة من السنة وأربعة من الشيعة بحيث يطلق عليهم ''الهيئة التنفيذية العليا'' والمقصود من هذه التسمية هو أن هؤلاء الثمانية ينفذون القرارات التي تتخذها الجمعية العمومية المؤلفة من أولئك المائة والعشرين الذين اختارهم المجتمعون في السنابس.
- ثالثا: اختيار ثمانية آخرين (رديف ثان) يحلون محل الثمانية الأوائل فيما لو حدث أي مكروه لهم.
- رابعا: تم في ذلك الاجتماع اختيار الثمانية المكونين للهيئة التنفيذية العليا وهم على الوجه الآتي:
* ممثلو الشيعة
1- السيدعلي السيد إبراهيم كمال الدين.
2- الحاج عبدالنبي العليوات.
3- الحاج محسن التاجر.
4- الحاج عبدالله أبوديب.
* ممثلو السنة
1- عبدالعزيز الشملان.
2- عبدالرحمن الباكر.
3- إبراهيم محمد حسن فخرو.
4- إبراهيم بن أحمد بن موسى.
- خامسا: تكليف أعضاء الهيئة برفع المطالب الشعبية إلى حاكم البلاد، التي تتلخص في النقاط الآتية:
1- تأسيس مجلس تشريعي.
2- وضع قانون عام للبلاد، جنائي ومدني.
3- السماح بتأليف نقابة للعمال.
4- تأسيس محاكمة عليا، للنقض والإبرام.
وبإعلان أسماء الهيئة والمطالب الشعبية بدأ العمل الفعلي للهيئة وتم تكليف عبدالرحمن الباكر ليكون أمينا عاما للهيئة.
وحين علم المستشار بلجريف بهذا الاجتماع وبالنتائج التي تمخض عنها، جن جنونه وطار صوابه، كما علمنا من بعض المصادر، ولم يكن أمامه إلا الدس والوقيعة بين الحاكم وبين الشعب، ويظهر انه أوغر صدر الشيخ سلمان مكررا على مسامعه الاسطوانة الاستعمارية إياها.. وهي أن هؤلاء النفر لا يمثلون أحدا...، وإنهم يريدون إسقاط الحاكم إلى آخر هذه الاسطوانة المشروخة، إلا أننا لم نعره له أي اهتمام وتوجهنا بتلك المطالب إلى حاكم البلاد مباشرة وفي ظني أن المستشار كان قد سبقنا وأوعز إلى الحاكم بتصورات بعيدة جدا عن واقع الحال فهمناها من خلال حديثنا مع المرحوم الشيخ سلمان، بيد أن الحاكم استجاب لتلك المطالب، باستثناء المطلب الخاص بالمجلس التشريعي، معللا ذلك بأن الوقت لم يحن وسيأتي وقته عندما يتطور الوعي السياسي بين الناس وطلب إلينا تغيير اسم ''الهيئة التنفيذية العليا'' إلى اسم آخر فوافقنا على أن نطلق عليها ''هيئة الاتحاد الوطني'' فلم يمانع ذلك.
انقسم أعضاء هيئة الاتحاد الوطني إلى فريقين، فريق مؤيد مطلب الحاكم بتأجيل المجلس التشريعي على طريقة ''خذ وطالب'' وفريق أصر على تنفيذ المطالب كلها من دون استثناء، مدعوما بمجموعة من المتحمسين من أعضاء الجمعية العمومية (المئة والعشرين)، وتوالت بعد ذلك اتصالاتنا بحاكم البلاد، واستمرت أوضاع هيئة الاتحاد الوطني بين المد والجزر.
الشاه يدخل على الخط
يبدأ الكاتب في هذا الجزء بالرد على الذين يعرفون ويحرفون ثم يغالطون التاريخ ''حسب قول الكاتب''، الذي يترك فسحة لوالده يحدثه في العام 1967 يقول السيد كمال الدين:
ياولدي.. ''عندما استقر بي المقام هنا في النجف الأشرف، شعرت بشيء من الأمان على رغم ما كنت أعانيه من قلق على أوضاعكم انتم بالذات، وعلى رغم قلقي المتناهي على مصير قضيتنا الوطنية، وأيضا على رغم صعوبة الحياة التي عانيت الكثير بسببها، لكنني وطنت نفسي وتجاوزت تلك الصعاب بالصبر وبالصبر وحده.. أما أصعب الأمور وأقساها على نفسي فهي الحكاية التالية التي لم تكن تخطر على بالي أبدا.
ففي مساء احد الأيام من صيف العام ,1957 بعد صلاة المغرب تحديدا سمعت طرقا على بابنا وحين فتحته وجدت نفسي أمام ثلاثة رجال سلموا عليّ وقبلوا يدي واحدا تلو الآخر، وعرّفوا أنفسهم أنهم زوار إيرانيون، حضروا للعراق لزيارة العتبات المقدسة، وأنهم سمعوا عني، وجاؤوا للسلام علي، فرحبت بهم وأدخلتهم في إحدى غرف المنزل المعدة كمجلس للضيوف، وبعد تناول الشاي بدى احدهم وكأنه متردد في أمر يريد أن يقوله فكسرت حيرته وسألته عما يريد فقال وهو يتحدث العربية بطلاقة (حيث علمت فيما بعد انه من سكان المحمرة) قال لي ''تسمح لنا يا سيدنا بالحديث معكم حديثا خاصا جدا'' قلت ''لا بأس في ذلك'' وأنا لم أزل أجهل قصده فقال بأسلوب غاية في التهذيب يا مولانا صاحب الجلالة شاهنشاه إيران يخصكم كثيرا بالسلام ويتمنى لكم دوام الصحة، قلت له وأنا مندهش ''عليكم وعليه السلام ورحمة الله'' قال ''انتم تعلمون يا مولانا كم هو مقامكم رفيع عند جلالة الشاه، وهو يكن لكم كل الاحترام، وهو يعلم بما أصابكم من حكامكم ومن الانجليز المستعمرين وزيادة في تكريمكم يدعوكم الشاه إلى أن تأتوا لإيران معززين مكرمين'' قلت له وقد تضاعفت دهشتي وزاد استغرابي ''لماذا اذهب إلى إيران وأنا هنا مرتاح بجوار مقام جدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام؟'' قال لي وقد بدت عليه علامات الثقة الزائدة إن الشاه سيكرمكم بأن تكونوا (عضوا في البرلمان الإيراني) بحيث تشغلون المقعد الشاغر والخاص بلواء البحرين، والدعوة يا سيدنا مفتوحة لكم وعائلتكم الكريمة''.
لقاء نوري السعيد
ياولدي.. حين سمعت ذلك الحديث من ذلك الرجل انتابتني غضبة شديدة، حدثت نفسي ساعتها أن اطرده من هذا البيت، لكنني تمالكت نفسي وسيطرت على أعصابي بقوة بالغة وتذكرت على وجه السرعة انه مرسل من قبل الشاه وليس من أي إنسان عادي وأن الماثل أمامي لا يمثل نفسه بل يمثل أقوى رجل في منطقة الخليج فأرخيت العنان للحديث الهادئ وتظاهرت بالهدوء قائلا له يا ''أخي الكريم بلغ جلالة الشاه شكري وتقديري لهذه الالتفاتة وأنا ممن يحترمون ويجلون مقام جلالته ولكن أرجوك أن تحمل اعتذاري الشديد لجلالته مقرونا بالتقدير والاحترام'' فقال لي وقد بدت على وجهه علامات الدهشة والتعجب ''ربما طلب مني جلالته معرفة سبب اعتذاركم عن عدم الاستجابة فماذا عساني أن أبلغ جلالته؟'' قلت له ''أرجوك أن تبلغ جلالته بكل الاحترام أنني من حيث المبدأ لا أقر ولا اعترف أن البحرين تابعة للدولة الإيرانية، ولم تكن كذلك بأي شكل من الأشكال على مدى تاريخها الطويل، وبلادي جزء لا يتجزأ من الوطن العربي الكبير فكيف يريد جلالته أن تصبح عن طريقي تابعة لإيران''.
إن هذا أمر لا يمكن لأي مواطن بحريني شريف أن يساوم عليه ومن يفعل ذلك يكون خائنا لوطنه بائعا لدينه وشرفه وثانيا أنا لم أخرج من البحرين بسبب خلافاتنا مع حكومتنا، فالخلافات يمكن أن تحل إذا حسنت النوايا، ولكني أخرجت من بلادي على يد الانجليز، وعلى يد المستشار بلجريف بالذات، الذي كنا ولازلنا نرفض هيمنته على جميع مفاصل الدولة بصورة استبدادية تعكس بشاعة الاستعمار وسنعود إلى بلادنا إن شاء الله بعد أن تتخلص من هذا المستشار المستبد''.
فارتسمت على وجهه علامات الدهشة والتعجب مصحوبة بالانبهار والإعجاب ربما لأنه لم يكن يتوقع أن يسمع ما سمع، ولم يقل بعدها إلا بضع كلمات للمجاملة والاستئذان بالانصراف فودعتهم شاكرا لهم هذه الزيارة وتلك الدعوة البغيضة، فصافحني الرجل وكأنه يشعر بالخجل ثم صافحني صاحباه اللذان لم ينطقا بحرف واحد طيلة جلستنا التي استمرت أكثر من ساعة ولعلهما حضرا فقط من اجل الاستماع إلى ما يدور من الحديث وتسجيله في عقولهما أو على أي شيء آخر الله وحده يعلم.
أغلقت الباب خلفهم ورجعت يا ولدي إلى الدار، والحيرة كانت تتملكني والأفكار تتضارب في رأسي وأخذت أضرب أخماسا في أسداس كما يقال وأصدقك القول يا ولدي.. لقد خشيت على نفسي من أن أضعف تحت وطأة تلك المغريات لكن خشيتي وخوفي على وطني كانت أقوى من خشيتي على نفسي وهذا الخوف على الوطن هو الذي منحني ساعتها تلك القوة وتلك الجرأة في رفض ذلك العرض السخي الخادع، وحين خرج أولئك النفر من دارنا شعرت بكثير من الزهو والاعتزاز بالنفس، فقد حفظت نفسي وحافظت على تاريخي وأبعدت نفسي عن شبهة الخيانة الوطنية.
لكن بعد مضي أربعين يوما تقريبا عن تلك الزيارة تكررت زيارة ذلك الرجل الذي عرف نفسه ''الحاج محمد'' ومعه هذه المرة شخصان آخران فرحبت بهم وأدخلتهم ''المجلس'' وبعد السؤال والجواب عن الصحة والأحوال وأخبار الطريق من إيران للعراق، وأثناء تناول الشاي بادرني وذكرني بزيارته الأولى وبالحديث الذي دار بيننا وكرر الدعوة الشاهنشاهية لي للرحيل إلى إيران، وبدت لهجته هذه المرة قوية وصارمة فشعرت من خلال كلماته بتهديد مبطن خصوصا عندما تحدث أن أولئك المعارضين للشاه وقال إن ذراع الشاه طويلة وقادرة على النيل من يقفون في وجهه لكنني أصبحت أكثر ثقة وكررت عليه إجابتي السابقة مضيفا إليها أنني لن أتمكن من استقبالهم مرة أخرى لهذا الغرض أو لغيره فاستأذنوا بالانصراف حين تيقنوا من إصراري على جوابي السباق وغادروا منزلنا ثم لم أرهم بعد ذلك.
أما وقد بلغت الأمور هذا الحد فأصدقك القول يا ولدي لقد ساروتني المخاوف خصوصا حين سمعت تهديداته المبطنة فما كان مني إلا أن ذهبت في اليوم التالي إلى قائمقام النجف السيد مهدي هاشم ولما كان بيني وبينه من صداقة طيبة بسبب موضوع إقامتي في العراق التي ساعدنا كثيرا في الحصول عليها استقبلني في مكتبه بكل الترحاب وبأسلوب الكرم العراقي وبعد مقدمات المجاملة وتناول الشاي أخبرته بالحادث وبما دار بيني وبين أولئك الضيوف ومن الأحاديث في الزيارتين فظهرت عليه علامات الانزعاج والامتعاض، فاستغفر وحوقل وجاملني بكلمات أخوية طيبت خاطري وأبدى أسفه الشديد قائلا ''أنا آسف يا سيدنا انك تلاقي مثل هذه المضايقات من أجانب وأنت في بلادنا بل أنت في وطنك وبين اهلك ولا تستغرب من مثل هذه التصرفات ولا أظن أن هؤلاء الجماعة إلا من الاستخبارات الإيرانية (السافاك) مع نوري السعيد ومن جانبي وحماية إليك أنصحك أن تقوم بزيارة إلى بغداد تقابل فيها فخامة رئيس الوزراء نوري السعيد وتشرح له تفاصيل هذه القضية المهمة التي تقلقك وتقلقنا عليك لأن نوري السعيد هو الوحيد القادر على إيقافهم عند حدهم وبأريحيته الطيبة بادرني قائلا يا سيدنا إذا أردتم موعدا مع فخامة الرئيس فسأرتب لكم بطريقتي الخاصة فاستحسنت ذلك الرأي وشكرته كثيرا ثم عدت إلى منزلنا وقد تملكني شعور بالارتياح.
بعد أسبوعين جاءني السيد قائمقام النجف بنفسه واخبرني أن فخامة الرئيس نوري السعيد يرغب في رؤيتي بعد ثلاثة أيام فشكرته واستبشرت خيرا وقبل يوم من الموعد كنت في بغداد وفي اليوم المحدد ذهبت إلى دار السراي أي دار الحكومة، فاستقبلني احد موظفي الرئاسة مرحبا بي وأدخلني في قاعة الأنظار وبعد حوالي عشر دقائق صحبني إلى مكتب فخامة الرئيس الذي أعجبت كثيرا بشخصيته ودماثة خلقه فرحب بي ترحيبا طيبا وبادرني بالقول يا سيد.. كنت أود أن أراك قبل هذا التاريخ ولكن مشاغلي الكثيرة تمنعني حتى من رؤية أفراد أسرتي أحيانا فشكرته على تلك المجاملة ومن دون أن أضيع وقته سردت عليه قصة أولئك الزوار بتفاصيلها فتفهم الموضوع كثيرا وبحزم رجل الدولة القوي طمأنني قائلا أنت في بلاد تنعم بالأمان ولن يتمكن احد من إيذائك وستجد تعليمات لدى السيد قائمقام النجف بخصوص إقامتكم في العراق، وإذا جدت أمور فلا تتردد واخبر قائمقام النجف، حينها شعرت بالارتياح وشكرته كثيرا على حسن استضافتهم لي وتسهيل أمور إقامتي واستأذنت بالانصراف فودعني عند باب مكتبه وحال خروجي وجدت أحد موظفي الرئاسة يضع نفسه تحت أمري وصحبني إلى سيارة خاصة كانت خارج المكتب وقال لي تفضل أوصلك للنجف قلت له أشكرك كثيرا أنا سأذهب بالباص فابتسم قائلا أنا لا استطيع مخالفة أوامر فخامة الرئيس فصعدت السيارة وعدت إلى النجف مصحوبا بذلك الرجل الذي أصبح فيما بعد واحدا من أصدقائي لأنه من بلدة الكوفة ويتردد على النجف كثيرا.

بعد يومين فقط من مقابلتي فخامة الرئيس نوري السعيد شعرت ان بيتنا أصبح تحت الحراسة المبطنة أي أنهم يحرسون بيتنا من دون أن يشعرونا بذلك.
استمرت تلك الحراسة حتى قيام ثورة (14) تموز العام 1958 التي قادها الزعيم عبدالكريم قاسم حيث اختفى الحراس وفي خضم التغييرات الدراماتيكية التي طرأت على الساحة العراقية لم يطرق بابنا أحد لا من الحكومة ولا من أولئك الضيوف.

أما الرجل الفاضل قائمقام قضاء النجف الذي أحيل على التقاعد بعد قيام الثورة فقد كانت تربطه صداقة قوية بأستاذ في جامعة بغداد اسمه فوزي القيسي، وكما روى لي هو انه كان يحدث ذلك الأستاذ وغيره بقصتي مع ''السافاك'' الإيرانيين، وكيف كان معجبا بوطنية السيدعلي وحرصه على عروبة البحرين وبتضحياته في سبيل أن يرى وطنه حرا مستقلا منتميا إلى أرض العروبة وتشاء الأقدار فيصبح ذلك الأستاذ الجامعي وزيرا للمالية في عهد فخامة الرئيس احمد حسن البكر العام 1968 وفي ذلك العام يقوم صاحب السمو الأمير الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة رحمه الله بزيارة إلى العراق وفي معيته كان السيد محمود العلوي وزير المالية واحمد العمران وزير التربية والتعليم، والحديث هنا لوالدنا يرحمه الله بعد عودته من العراق العام ,1969 وأنقل ما قاله بالمعنى وليس حرفيا أذكرك يا ولدي بحديثنا عن الاستخبارات الإيرانية ويظهر انه حديث محبب إلى نفسه فقد علمت فيما بعد من صاحبنا قائمقام النجف أن صديقه وزير المالية العراقي سرد تلك الحكاية على مسامع احمد العمران والسيد محمود العلوي، اللذين كانا يرافقان سمو الأمير الشيخ عيسى في تلك الزيارة فما كان منهما بعد العودة للبحرين إلا أن ابلغا سمو الأمير بما سمعاه من وزير المالية العراقي فتأثر كثيرا وأمر من وقته وساعته بأن يجدد جواز سفر السيدعلي وأن يدعى للعودة إلى وطنه بعزته وكرامته فكانت عودة والدنا في صيف العام 1969 بعد أن قضى أربعة عشر عاما في المنفى.