Thursday, February 28, 2008

قرن من الدعم البريطاني لـ اسرائيل فما الذي حققته لندن؟

قرن من الدعم البريطاني لـ اسرائيل فما الذي حققته لندن؟
د. سعيد الشهابي
القدس العربي
27/02/2008
كيف يمكن تفسير الاصرار الغربي ليس علي حماية اسرائيل فحسب، بل السعي المتواصل لتجنب اغضابها او ازعاجها باي شكل؟ ما مصلحة الغربيين من ذلك؟ فهل هي القوة السياسية والعسكرية للكيان الاسرائيلي؟ام قوة الضغط الذي يمارسه اللوبي الصهيوني في العواصم الغربية؟ ام العلاقة الدينية بين المسيحيين واليهود؟ ام الشعور الغربي بعقدة الذنب لما تعرض له اليهود في اوروبا في القرون الماضية، خصوصا في النصف الاول من القرن الماضي، حتي انتهاء الحرب العالمية الثانية؟ ام انه ليس أيا من هذه الاسباب، بل الرغبة في ابقاء الجبهة الغربية ضد العالمين العربي والاسلامي متماسكة وثابته، ولا تخضع للظروف والتغيرات في الامزجة السياسية وما يطرأ علي الاعتبارات التاريخية؟ ان من الصعب تحديد عامل واحد واعتباره تفسيرا شافيا لهذه السياسة، ولذلك ستظل طبيعة العلاقة بين تل ابيب والعواصم الاوروبية وواشنطن خاضعة للتفسير والتأويل والتشكيك ايضا. اذ انها تستعصي علي الفهم العادي، وتتطلب استيعابا من نوع آخر يتوفر علي معلومات سياسية ونفسية وأخلاقية. وثمة منطلقات لهذه النظرة الاستغرابية لطبيعة هذه العلاقات، تقوم علي الوقائع التي تحدث بشكل متواصل، وتتجاوز المنطق العادي للعلاقات السياسية. تبدأ قصة بريطانيا مع اسرائيل منذ قرابة المائة عام، وعلي وجه التحديد في 1917، عندما صدر وعد بلفور في تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام، وهو الوعد الذي تعهدت الحكومة البريطانية بموجبه بأمرين: أولهما بذل افضل المساعي والجهود من اجل اقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وثانيهما عدم السماح بأي اجراء يضر بالحقوق المدنية والدينية لغير اليهود من المقيمين في فلسطين نتيجة انشاء الكيان الجديد. ولكن سرعان ما بدت استحالة التوفيق بين هذين الامرين: انشاء دولة للكيان الصهيوني علي الارض الفلسطينية، والوصول الي اهداف هذه الدولة وغاياتها، بما تتضمنه من استيطان وتهويد، والمحافظة في الوقت نفسه علي الحقوق المدنية والدينية للعرب الفلسطينيين المقيمين علي ارضهم، كما نص الوعد المذكور. هذا الالتزام البريطاني ل ليهود كان بداية الأزمة التي هيمنت علي المنطقة طوال القرن الماضي، وما تزال. المحطة الثانية دعوة بريطانيا لعقد اول دورة للجمعية العامة للأمم المتحدة في 28 نيسان (ابريل) 1947 من أجل مناقشة القضية الفلسطينية ليعرض ممثلو الهيئة العربية العليا و الوكالة اليهودية وجهة نظرهم. في ذلك الاجتماع، قررت الجمعية اختيار لجنة تحقيق دولية طرحت تقريرا مخيبا للآمال نص علي ضرورة انهاء الانتداب وإعلان استقلال فلسطين كدولتين للعرب واليهود. وقبل يوم واحد من انتهاء الانتداب البريطاني في فلسطين، اعلن قيام الكيان الاسرائيلي، ليدشن واحدا من أسوأ العهود التي عاشتها المنطقة. المحطة الثالثة في السياسة البريطانية تجاه اسرائيل جاءت في 1956 عندما وقع ما عرف بـ العدوان الثلاثي علي مصر الذي أدي الي حرب وقعت ضد مصر في 1956م شاركت فيها فرنسا وإسرائيل وبريطانيا علي اثر قيام جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس.
ويعتبر التورط البريطاني في ذلك العدوان من أكبر الاخطاء التي ارتكبتها بريطانيا علي صعيد السياسة الخارجية. فقد ادت تداعيات ذلك العدوان الي التلاشي التدريجي للنفوذ البريطاني، والسقوط التدريجي للامبراطورية العملاقة، ودفع رئيس الوزراء آنذاك، أنتوني ايدن، للاستقالة بسبب فشل سياسته الخارجية التي ادت الي توريط بلاده في الحرب الي جانب اسرائيل وفرنسا ضد مصر. وبتلاشي دور بريطانيا في الشرق الاوسط، بدأ العهد الامريكي، الذي بدأ صديقا للعرب، وانتهي حليفا لـ اسرائيل .المحطة الرابعة في السياسة البريطانية كانت بعد حرب 1967، عندما قدّم المندوب البريطاني لدي الامم المتحدة اللورد كارادون في 22 نوفمبر من ذلك العام مشروعه الي مجلس الأمن، وهو المعروف بالقرار الرقم 242.
ذلك القرار استعمل كلمة أراضٍ وليس الأراضي، و مشكلة اللاجئين الامر الذي دفع معظم أعضاء مجلس الأمن خلال مداخلاتهم الي اعتبار لفظة أراضٍ تدل علي غير معناها: فهم يصوّتون علي معني شمولها جميع الأراضي، بينما كان الامريكيون والبريطانيون يقصدون بعض الأراضي وليس كلها، ما جعل مندوب أميركا السابق في الأمم المتحدة (غولدبرغ) يقول: ان الغموض الذي يشوب القرار 242 لم يحدث سهواً بل كان مقصوداً . أما هنري كيسنجر، الذي أصبح في العام 1969 مستشاراً للأمن القومي لدي نيكسون، فطالما سخر من القرار 242 مردداً: ما الذي يدعوكم للتمسك بهذا القرار الذي ليس فيه سوي مجموعة عبارات كل واحدة منها تتعارض مع الأخري... وهذه عبقرية الانكليز في الصياغات، اذ لم تعد لديهم القوة لصنع حلول للأزمات فاستعاضوا عن الحلول بلعبة الصياغات التي تصور لكل طرف انه حصل علي شيء، وفي الحقيقة فإن أحداً من الأطراف لم يحصل علي شيء .قد يقال ان هذا كله ينتمي للتاريخ الذي مضي عليه اربعون عاما، فماذا عن الوضع الراهن؟ الموقف البريطاني الداعم لـ اسرائيل لم يتغير أبدا. وفي الفترة الاخيرة حدثت تطورات تؤكد ذلك بشكل واضح. من هذه التطورات ما كشف النقاب عنه مؤخرا حول امتناع الشرطة البريطانية عن اعتقال مسؤول اسرائيلي متهم بارتكاب جرائم ضد الانسانية في غزة. ووفقا لما تم الاعلان عنه، فقد كان الجنرال الإسرائيلي المتقاعد دورون ألموغ علي متن طائرة العال الاسرائيلية في مطار هيثرو عام 2005 ولكنه رفض النزول منها إثر تلقيه تحذيراً بأن الشرطة البريطانية في انتظاره، فيما أحجمت تلك القوة عن دخول الطائرة الإسرائيلية خشية اندلاع مواجهة مسلحة مع حراس الجنرال وعناصر أمن الطائرة.
وخلصت مفوضية شكاوي الشرطة المستقلة في ختام تحقيقاتها عن الواقعة العام الماضي، إلي صحة قرار القوة البريطانية بعدم دخول الطائرة الإسرائيلية لاعتقال ألمونغ. وكانت محكمة بريطانيا قد أصدرت مذكرة اعتقال بحق الجنرال السابق، الذي تولي قيادة الإسرائيلي في قطاع غزة عام 2002، بعد اتهام منظمة المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان له بارتكاب جرائم حرب، إثر تدمير القوات الإسرائيلية 59 مسكناً في مخيم رفح للاجئين. ويخول القانون السلطات البريطانية سلطة توجيه تهم ارتكاب جرائم حرب إلي أجانب، حتي إن لم تمس الحادثة بريطانيا أو مواطنيها. وادي الكشف عن الحادثة الي سجال سياسي حول ما جري، فاعتبره البعض تصرفا حكيما بينما رآه الكثيرون تخليا عن المسؤولية في التصدي للجريمة ، واعتبره آخرون مثالا آخر للسياسة البريطانية المداهنة لاسرائيل .تزامن ذلك مع الكشف عن ان وزارة الخارجية البريطانية قامت بإخفاء اسم إسرائيل في تقرير عن أسلحة الدمار الشامل العراقية عام 2002 خشية تدهور العلاقات بين البلدين.
ووفقا لما جاء في التقرير الاستخباراتي فقد كانت كلمة اسرائيل قد كتبت بخط اليد الي جانب تصريح في هذا الملف اشار الي انه: ليس هناك اية دولة (ما عدا العراق) استطاعت ان تتحدي سلطة الامم المتحدة سعياً لامتلاك اسلحة دمار شامل . وجاء علي لسان مسؤول رسمي بريطاني ان هذه الخطوة كان الهدف منها حماية العلاقات البريطانية ـ الاسرائيلية، مضيفا ان وزارة الخارجية البريطانية لم تحرص علي إخفاء وثائق خطت باليد لأسماء بلدان عدة وردت في التقريرمثل الولايات المتحدة واليابان والمانيا في الأقسام التي تتعلق بالحرب العراقية . هذه القضية اثارت التساؤلات عن مدي ما يمكن ان تذهب اليه السلطات البريطانية لتفادي إغضاب الكيان الاسرائيلي، خصوصا ان الكشف عنها تزامن مع الكشف عن قضية الضابط الاسرائيلي المتهم بهدم ستين منزلا للفلسطينيين، واستهداف الابرياء بالقتل والتشريد.
فماذا يعني هذا الموقف من دولة كبري؟ وما هي الرسالة التي تسعي لايصالها للعالم، في الوقت الذي تدعي فيه العمل علي الحد من انتشار الاسلحة النووية، وتستهدف بلدانا مثل ايران بشكل مباشر بسبب مشروعها النووي. هذا مع ان ايران وقعت اتفاقية منع انتشار الاسلحة النووية (ان بي تي) وتتعاون بشكل منتظم مع فرق التفتيش الدولية التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما اكد تقرير البرادعي الاخير. بينما تسعي بريطانيا وامريكا للتغاضي عن المشروع النووي الاسرائيلي، وترفضان ممارسة ضغوط علي تل أبيب لاجبارها علي توقيع معاهدة (ان بي تي) واخضاع منشآتها النووية للاشراف الدولي.
وذهبت بريطانيا (وبلدان اوروبية اخري) الي حد محاصرة حرية التعبير، بمنع التشكيك في الهولوكوست، واعتبار ذلك في عداد المسلمات التي لا يجوز لاحد الاعتراض عليها او التشكيك ليس في واقعيتها فحسب، بل في دقة المعلومات المتصلة بها. وفي 1975، عندما طرح القرار 3379 الذي ينص علي ان الصهيونية تساوي العنصرية، حظي باصوات 72 دولة، وعارضته 35 دولة من بينها بريطانيا والولايات المتحدة. ولكن في 1991 اشترطت اسرائيل الغاء ذلك القرار كشرط لمشاركتها في مؤتمر مدريد، فتبنت دول عديدة مشروع الغاء القرار، من بينها بريطانيا والولايات المتحدة، وجاء في قرار الالغاء الذي اعطي الرقم 4686، وهو الاقصر في تاريخ المنظمة الدولية ما يلي: تقرر الجمعية العمومية الغاء ما جاء في قرارها رقم 3379 الصادر في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1975 . وهكذا تطورت الامور بتعاون امريكي ـ بريطاني لتوفير مظلة سياسية ودبلوماسية للكيان الصهيوني، في المحافل الدولية. ومنذ فترة تصاعدت الاصوات التي تسعي لتجريم الانتقادات الموجهة لـ اسرائيل واعتبار ان معاداتها معاداة للسامية.
هذه السياسات التي تتبناها واشنطن ولندن لا تحظي بقبول واسع في المجتمعات الغربية، بل ان هناك شعورا يزداد تعمقا بان الغرب أصبح يدفع الفواتير الاسرائيلية الناجمة عن تعنتها وارهابها وتوسعها واحتلالها، ومغامراتها عبر الحدود. فقبل عامين قرر الاكاديميون البريطانيون مقاطعة جامعتي حيفا وبار إيلان الاسرائيليتين بسبب السياسات الاسرائيلية العنصرية ضد الفلسطينيين، ولكن السفير البريطاني في تل ابيب قال ان الحكومة البريطانية تعارض المقاطعة الاكاديمية بشكل عام والمقاطعة الموجهة للجامعات الاسرائيلية علي وجه الخصوص . جاء قرار الجامعات البريطانية نتيجة النشاط الذي مارسه النشطاء الفلسطينيون ومؤيدوهم من البريطانيين وغيرهم. هذا النشاط بدأ يتصاعد برغم محاولات اللوبي الصهيوني ربط بعض رموزهم بالتطرف والارهاب.
وفي السنوات الاخيرة بثت شاشات التلفزيون البريطاني عددا من البرامج التوثيقية لتسليط الاضواء علي بعض هؤلاء، وذلك في اطار الحرب النفسية ضد النشطاء الفلسطينيين. مع ذلك لم تتوقف انشطة المجموعات الفلسطينية في بريطانيا مثل مركز العودة الفلسطيني و العون الطبي للفلسطينيين وغيرهما. وفي الاسبوع الماضي انطلقت فعاليات أسبوع مناهضة الفصل العنصري الإسرائيلي في أكثر من 30 جامعة في مختلف المدن البريطانية، بالتزامن مع حملة انطلقت في جنوب أفريقيا والولايات المتحدة وكندا وفلسطين والمكسيك، بمبادرات من مجموعة من المؤسسات غير الحكومية والجمعيات الطلابية الداعمة للحقوق الفلسطينية. هذه الفعاليات اصبحت مصدر تثقيف للرأي العام البريطاني وعامل توازن بامكانات أضعف لمواجهة ما يقوم به اللوبي الصهيوني سواء في الدول الاوروبية ام الولايات المتحدة الامريكية.الغريب في الامر ان ستين عاما من التوتر في منطقة الشرق الاوسط نتيجة قيام نظام الاحتلال الصهيوني، تبدو غير كافية لاقناع الساسة الغربيين، خصوصا البريطانيين، بخطر الاستمرار في سياسة الدعم غير المحدود للكيان الاسرائيلي. وما تزال بريطانيا ترجح علاقاتها مع اسرائيل علي علاقاتها مع الدول العربية والاسلامية، حتي ليبدو ان اسرائيل هي الدولة الكبري وليس بريطانيا.
لقد حان الوقت لكل من واشنطن ولندن، ان كانت حكومتاهما تنطلقان بلحاظ الحفاظ علي المصالح الوطنية، ان تعيدا النظر في سياساتهما تجاه المشكلة الفلسطينية بشكل جوهري. فماذا استفادته بريطانيا من تبنيها المشروع الصهيوني علي مدي مائة عام؟ وما هو المأمول من هذا المشروع؟ خصوصا في الاجواء الاوروبية التي تزداد وعيا لخطر ذلك المشروع وانعكاساته السلبية علي مصالح المواطن الاوروبي. ان الكيان الاسرائيلي لم يعد خيارا استراتيجيا للغربيين، لانه غريب عن لحمة المنطقة، ولم ينجح في كسر ا لعزلة الطبيعية التي تحيطه. لقد خسرت بريطانيا رهانات عديدة، كان اهمها ما حدث بعد العدوان الثلاثي علي مصر، ولم تتحمس لتطبيق القرار 242 الذي صاغه ممثلها، اللورد كارادون في الامم المتحدة، ولم تستطع حماية حدودها من مكائد عملاء الموساد، وما تزال قضية المصري أشرف مروان، الذي عثر علي جثته خارج شقته وسط لندن، لغزا للكثيرين. وليس مستبعدا ان يكون للموساد دور في وفاته. أليس هناك عاقل في وايتهول يتخذ قرارا تاريخيا بفك الارتباط بالمشروع الصهيوني، واقامة علاقات أكثر انسانية واعتدالا وتوازنا مع منطقة الشرق الاوسط، والتخلي عن دعم الاحتلال الاسرائيلي؟