Tuesday, August 05, 2008

لوْلاهم لَما كنتَ

لوْلاهم لَما كنتَ
عبدالهادي خلف
قبل أربعين سنة عيَّنني أستاذي في هذه الجامعة مساعداً تدريسياً له. لم أكن أذكى طلبته ولا أشطرهم ولهذا استغرب زملائي ذلك القرار. إلا إنني لم أر سبباً للاحتجاج فلقد نقلني ذلك القرار من حالة إلى حالة.فلقد كنتُ طالباً أجنبياً يعتمد على غسل الصحون في المطاعم لتمويل مواصلة دراسته، وفجأة صرتُ ''عضواً في الهيئة التدريسية''. أضعُ تلك الصفة بين قوسين لأن فيها مبالغة كبيرة. فلم أكن في 1968 مدرساً بل مساعداً تدريسيا، أي أقل من معيد. وكانت مهماتي تنحصر في التواجد في أثناء حصص التطبيقات العملية الإلزامية التي يغيب المدرسون الحقيقيون عنها. وكانت أقصى سلطاتي أن أتأكد من إجابة الطلبة المشاركين على جميع الأسئلة وأن أجيب على استفساراتهم وأن أضع علامة الحضور على قائمة أسماء المشاركين.
من الصعب عليَّ الآن أن أصف درجة الغرور التي وصلتُ إليها وأنا أمارسُ ''سلطاتي''. فلقد كنتُ كمن ''فتحَ عينَه فرأى الديك''. فلم أكتفِ بالتصرف ضمن حدود سلطاتي ''التنفيذية'' بل صرت أتصرف وكأنني صاحب قرار. فصرتُ أزجرُ هذا أو تلك وكنتُ أطيلُ الحصة أحياناً حين لا أكون راضياً عن أجوبة الطلبة. ويبدو أنني تماديتُ جلفاً وتماهيتُ مع الصورة التي رسمتها لنفسي. فلم تمض أسابيع إلا وأنا أتذمر من كسل الطلبة وكثرة أسئلتهم ومن عدم قدرتهم على الاستيعاب رغم ''كل ما أفعله من أجلهم''. وصرتُ أرى فيهم كل العيوب التي يرمي بها أهل السلطة من هم دونهم. لم يكن هناك واحدٌ بعينه أصفه بالغباء أو واحدة بعينها أصفها بالكسل. بل وكما يفعل كل من تصيبهم السلطةُ بهوسها رأيتُ العيوبُ فيهم جميعاً وكان العقابُ، حين يقع، عقاباً جماعياً.
وبطبيعة الحال لم أحتفظ بتلك المشاعر لنفسي بل صرتُ أعلنها. فما فائدة السلطة إن لم تتباهَ بها. ووصلت بعض شكاوى إلى أستاذي رحمه الله الذي اكتفى لحسن حظي بأن قال لي ما ملخصه ''لولاهم لما كُنّا هنا''. أي لولا الطلبة لما كانت الجامعة ولما صار هو أستاذاً فيها ولما صرتُ مساعداً له. فمن كنتُ أتذمر منهم وكنتُ على شفا أن أعتبر نفسي خسارة فيهم هم أساس وجود الجامعة نفسها وهم أيضاً مبررها لتوظيفي. ولحسن حظي أيضاً لم أكن قد بلغتُ درجة من الغرور لا تتيح لي استيعاب معاني تلك العبارة. لوْلاهم لَما كنتَ.تشبه تلك العبارة بيت شِعرٍ يقول ''الناس للناس من بدوٍ وحاضرةٍ/ بعضٌ لبعضٍ وأن لم يشعروا خدمُ''.
وأذكر بتقدير كم حاول أن يشرحه لنا الأستاذ ''وزير رفاعي'' طيب الله ذكره الذي درّسنا بكفاءة عالية مادة ''الفلسفة وعلم الاجتماع'' في آخر سنة لي في المدرسة الثانوية في البحرين. فلقد صعب علينا ونحن في بداية أعمارنا أن نستوعب أن شروط حياتنا هي نتاج التفاعل مع شروط حياة الآخرين، خاصة إذا كان هؤلاء دوننا رتبة من جهة المال أو العلم أو المحتد.
تذكرتُ كل ذلك بعد أن أعدتُ قراءة ما نشرته الصحافة المحلية في الأسبوع الماضي عما جرى في لقاء وزيريْ الأشغال والبلديات والزراعة مع أهالي المالكية[1]. ففي تلك التقارير الصحافية عن ذلك اللقاء يوجد كنزٌ من التفاصيل التي تفيد دارسي الوضع السياسي في البحرين وبخاصة المهتمين منهم بأساليب ممارسة السلطة فيها. ومن بين درر ذلك الكنز ما نُشر عن دعوة وزير الأشغال والبلديات الأهالي إلى عدم الاكتفاء بتوعية الشباب في قريتهم وإنما التصدي لمثيري الشغب والإبلاغ عنهم انطلاقا من اعتباره ''أن كل مواطن يجب أن يكون رجل أمن للدفاع عن قريته''.
لا أعرف ما وراء تلك الدعوة الغريبة والخطرة. ولكنني أتمنى ألا يكون الوزير جاداً حين طرحها وألا يعتبرها البعضُ دعوة لإنشاء ''مجالس صحوة'' في قرى البحرين ومناطقها على نمط المجالس سيئة الصيت التي يرعاها الاحتلال الأميركي للعراق. وعلى أية حال فثمة حاجة لمناقشة مخاطر هذه الدعوة على ما لم يتَهَتَك حتى الآن من نسيجنا الاجتماعي.من الدرر الأخرى التي نثرها الوزيران على من حضر من أهالي المالكية بعض الكلام المنسوب إلى وزير الأشغال والمشرف على هيئة الكهرباء والماء فهمي الجودر. فبعد أن أشار الى إيقاف وزارته مشروعاتها في القرية جراء الوضع الأمني والتهديدات أعلن ''أن صبر الحكومة قد اختبر إلى أقصى حدوده وأن التجاوزات الأمنية باتت غير مقبولة في ظل محاولة الحكومة الدفع قدماً بالمشروعات التنموية التي تعود على المواطنين بالفائدة فيما تسعى أطراف للإضرار بتلك المكتسبات[2]''.
لم أصدق عيني حين قرأتُ إعلان الوزير أن صبره، أو على الأصح صبر الحكومة قد اختبرَ وكاد أن ينفد بسبب عناد أناس لا يريدون أن تنجح محاولاتها لتنفيذ المشاريع التنموية. لم أصدق ما قرأتُ ولهذا احتجتُ إلى عدد من المكالمات الهاتفية مع آخرين في البحرين بمن فيهم أحد من حضروا اللقاء مع الوزيرين. وتأكد الجواب. نعم لقد عيل صبر الوزير ومن قبله الحكومة. إلا أن ما يبشر بالخير أن الأمور لم تصل إلى أسوأ من ذلك. فحتى الآن والحمد لله لم يقم الوزير ولا الحكومة بإعلان سحب الثقة من الناس.حقاً إن ''البحرين غير وغير'' حسبما أخبرنا شعار مهرجان سياحي قبل أربع سنوات. فليست هي الناس التي تسحب ثقتها من الوزير أو الحكومة أو تطالب باستقالته أو باستقالتها. بل هي حكومتنا التي يُختبر صبرها لكنها تبقى صابرة محتسبة. ورغم ذلك فللصبر حدود. ولكي لا تفقد الحكومة كل صبرها فعلى الناس في القرى والمناطق الأخرى أن تتأسى بما سيؤول إليه حال المالكية إن لم يستتب الأمن فيها بمجلس صحوة أو بدونه.تختلف الأمور في بلادنا عما هي عليه في البلاد الأخرى. فليست هي الناس التي تشتكي من إهمال الحكومة لمناطق وقرى. ولا من فساد هذا المسؤول أو ذاك. ولا من سوء التخطيط أحياناً وإنعدامه في الأغلب.
ولا من هدر ثروات البلاد على مشاريع لا يستفيد منها إلا المتنفذون. وليست هي الناس التي تسحب ثقتها من الوزير أو الحكومة أو تطالب باستقالته أو باستقالتها. فالبحرين ''غير وغير''. ففيها يحق لمسؤولٍ أن يعلن نفاد صبره من الناس بينما لا يحقُّ للناس إعلان نفاد صبرهم من ذلك المسؤول.[1] أنظر حسين السلم: ''إيقاف مشروعات التنمية في المالكية''، الوقت، 22 يوليو/تموز 2008[2] أنظر مازن مهدي ،''إيقاف مشاريع المالكية التنموية بسبب التهديدات الأمنية'' ،الوسط ، 22 يوليو/تموز 2008- كاتب بحريني - أستاذ علم الاجتماع في جامعة (لوند) - السويد