تعقلوا يا قوم
الموضوع : كلمة للأستاذ عبد الوهاب حسين .
المناسبة : تأبين شهداء الدير .
المكان : قرية الدير ـ الساحقة المقابلة لجامع الخيف .
العنوان : تعقلوا يا قوم .
التاريخ : 12 / ربيع الثاني / 1429هج .
الموافق : 18 / أبريل ـ نيسان / 2008م .
أعوذ بالله السميع العليم ، من شر نفسي الأمارة بالسوء ، ومن شر الشيطان الرجيم .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين .
اللهم صل على محمد وآل محمد ، وارحمنا بمحمد وآل محمد ، واهدي قلوبنا بمحمد وآل محمد ، وعرف بيننا وبين محمد وآل محمد ، واجمع بيننا وبين محمد وآل محمد ، ولا تفرق بيننا وبين محمد وآل محمد في الدنيا والآخرة طرفة عين أبدا يا كريم .
اللهم معهم .. معهم لا مع أعدائهم .
السلام عليكم أيها الأحبة : أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله تعالى وبركاته .
في البداية : رحم الله من قرأ السورة المباركة الفاتحة وأهدى ثوابها إلى أرواح شهدائنا الأبرار ( عليهم الرحمة ) .
في هذه المناسبة العظيمة : حيث أقف في محراب مقدس من محاريب الشهادة ، سوف أتحدث عن قضية حرق الجيب في قرية كرزكان ، وحديثي في الحقيقة موجه إلى الشرفاء من العقلاء من أبناء هذا الوطن العزيز { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } سواء كانوا في السلطة أو الموالاة أو المعارضة .. أما آثم القلب : الذي أغفل الله ( عز وجل ) قلبه عن ذكر الله ( جل جلاله ) وعن الحق والعدل واتبع هواه وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ، من التكفيريين والمحرضين على الفتنة الطائفية ، ومن يبيع الدين والوطن والعرض والشرف والكرامة بالمال والرياء والجاه والسمعة ، من : أصحاب الأقلام المأجورة ووعاظ السلاطين وسماسرة السياسية والمتملقين والمتزلفين ، والذين ليس لهم رأي ولا بصيرة فهم يميلون مع كل ريح وينعقون من كل ناعق ، فليس لهؤلاء جميعا نصيب في حديث الليلة ، لأنه لا نور لهم من نور الشهادة .
أيها الأحبة الأعزاء : توقعت قبل شهر ونصف تقريبا من وقوع حادث إحراق الجيب في كرزكان ، في ظل قراءة للتوتر الأمني المفاجئ في الكويت ، أن يحدث توتر أمني في البحرين ودول أخرى في المنطقة ، ليس بسبب الأوضاع المحلية فحسب ، وإنما للتطورات الإقليمية والدولية المتوقعة . وقد حدث التوتر الأمني بالفعل ، وذروته حرق الجيب ومقتل شرطي في قرية كرزكان .
وقلت قبل أسبوع تقريبا ولا زلت على هذا الرأي حتى الآن : أن حادث حرق الجيب في كرزكان ملتبس ويكتنفه الكثير من الغموض لدي . فللسلطة دواعيها المحلية والإقليمية للتصعيد الأمني ، وكثير من الشبهات التي أثيرت حول ملابسات الحادث والتغطية الإعلامية المصاحبة والتالية ، فيها قوة وتحتوي على مصداقية كبيرة ، لاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار تعارض رواية السلطة مع رواية جد الشرطي وعمه ، مما يثير الشك حول مصداقية رواية السلطة ، ويدعو إلى التريث والانتظار ، وهذا مما ينال ـ بحسب رأيي ـ من مصداقية الأصوات المتسرعة التي نصبت نفسها محققا وقاضيا وأصدرت ـ بخلاف القانون والشريعة ـ أحكاما جزافية على الأبرياء قبل أن ينتهي التحقيق وتتضح ملابسات الحادث ، وقد ألحق ذلك أضرارا جدية بالمواطنين الأبرياء وسوف تلحق بهم المزيد من الأضرار في المستقبل على أكثر من صعيد . إلا أنني لم أسقط فرضية أن يكون الشباب هم وراء الحادث ، وهذا هو موضوع حديثي في هذه الليلة .
وسواء كانت السلطة مسؤولة بصورة مباشرة عن الحادث أو غير مسؤولة ، فقد صاحب الحادث تصعيدا سياسيا وإعلاميا مركزا من قبل رموز من السلطة والموالاة ضد قوى المعارضة ، وتجييش الرأي العام طائفيا ضد طائفة تمثل مكون أساسي من مكونات هذا الشعب الأبي ورموزها الكبار ، اتهمت فيها بالخيانة والتآمر ضد الوطن ومصالحه الحيوية والعمل لأجندة خارجية وطائفية ، وبقدرة قادر : تحول اللصوص والمرتزقة إلى أصحاب حق وحماة للوطن والمواطنين ، وتحول الشرفاء وأصحاب الحق إلى مجرمين وخونة . ووصل الأمر في الحملة الطائفية إلى درجة التحريض الصريح والمباشر على القتل للرموز الكبار في الطائفة ، مثل : سماحة العلامة الشيخ عيسى أحمد قاسم ، وسماحة العلامة السيد عبد الله الغريفي ، وسماحة العلامة الشيخ حسين النجاتي ، والرمز السياسي الأستاذ حسين المشيمع ، وغيرهم . وأنا لا أريد النزول إلى هذا المستوى السافل من الطرح ، لأن من يقف وراءه والقائمين عليه يعلمون بداهة بطلانه بحكم العقل والتجربه ، ولكنهم يصرون عليه ظلما وعدوانا وشقاقا بين أبناء الشعب الواحد .
وأعود إلى أصل الموضوع : لقد حاول البعض أن يحمل السلطة المسؤولية المباشرة عن الحادث ويبرأ طرف الشباب منه بصورة نهائية . وليس لي ما لديهم من الوضوح والقطع ، ولكن أفترض أن السلطة هي وراء الحادث ، وأن الشباب بريؤون منه براءة الذئب من دم يوسف ( عليه السلام ) وأسأل : هل يوجد ضمان بأن لا يرتكب الشباب مثل هذا العمل الخطير في المستقبل ؟ والسؤال موجه إلى الشرفاء من العقلاء من أبناء هذا الوطن العزيز ، الذين يريدون له بصدق وإخلاص الأستقرار الأمني والسياسي من أجل راحة أبنائه وحفظ مصالحهم الحيوية والجوهرية .
وأرى : بأن الأستقرار الأمني والسياسي لا يمكن أن يتحقق في ظل الظروف الراهنة في البلاد والمتثملة في الأمور المهمة التالية :
الأمر ( 1 ) : استمرار آثار الانقلاب على الدستور العقدي وميثاق العمل الوطني واستمرار بقاء الأبن غير الشرعي لهذا الانقلاب وهو ( دستور : 2002 ) والمؤسسة البرلمانية الصورية المستندة إليه التي ترتهن السلطة فيها إرادة ممثلي الشعب بصورة كاملة ، حيث لا يمتلك ممثلوا الشعب أن يصدروا قانونا لا تريد السلطة صدوره ، أو يمنعوا صدور قانون تصر السلطة على صدوره ، ولا يمتلكوا سحب الثقة من أي وزير لا تريد السلطة سحب الثقة منه . وهذه الحقيقة متوافق عليها لدى الجميع ، حتى المشاركين في البرلمان بحسب الصريح من تصريحاتهم .
الأمر ( 2 ) : استمرار التجنيس السياسي المبرمج ، والتمييز الطائفي الشامل ، والحملات الإعلامية والسياسية المركزة والمبرمجة ، وكلها تستهدف الوجود المادي والمعنوي لطائفة معينة من أبناء هذا الشعب الكريم .
الأمر ( 3 ) : انخفاض الأجور وارتفاع الأسعار ، وصعوبة الحصول على السكن الملائم ، وصعوبات المعيشة الأخرى .
الأمر ( 4 ) : قمع حرية التعبير واستخدام القوة المفرطة ضد المظاهرات والمسيرات السلمية المطالبة بالحقوق الشرعية الطبيعة في الحياة والحريات الأساسية ، واستخدام العقاب الجماعي الذي يشمل الأطفال والشيوخ والنساء ، والتعرض للشرف والعرض وانتهاك الحقوق والحرمات والقتل خارج القانون ، من أجل حماية المصالح الحيوية والاستراتيجية من منظور القائمين على السلطة ، مثل : حماية العرش ، والاستفراد بالسلطة ، والاستحواذ على الثروة ، وافتعال الحوادث وتأجيج الأوضاع الأمنية لتبرير الإجراءات القمعية لمواجهة المطالب السياسية السلمية للمعارضة ، فلا ترى ولا تسمع في ظل هذه الأوضاع السيئة ، إلا شبابا محطما مكبوتا وغاضبا .
والسؤال : في ظل هذه الأوضاع السيئة والغضب العارم ، هل يستبعد العقلاء أن يقوم الشباب بممارسات خطيرة كالذي حدث في كرزكان ؟
العقلاء يعرفون : بأن لجوء الشباب إلى الممارسات الخطيرة في ظل الأوضاع السيئة والغضب العارم أمر في غاية التوقع ، إن لم يكن نتيجة طبيعة . ولهذا نجد إقبال بعض الشباب اليائس على الانتحار . وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يقف عندها الشرفاء من العقلاء من أبناء هذا الوطن العزيز ، فهم أمام شباب لا رغبة لهم في الحياة في ظل هذه الأوضاع السيئة ، واصبحوا يتمنون الموت ، ويتلقونه بصدور رحبة بدون خوف أو وجل . فإذا أراد الصادقون المخلصون لهذا الوطن الاستقرار الأمني والسياسي له ، وأن يمنعوا تكرار ما حدث في كرزكان ، فعليهم بدعوة الأطراف للحوار والتوجه نحو المعالجة السياسية والقضاء على الأسباب الحقيقية للتوتر والكبت والاحتقان وشعور المواطنين بالغربة والذل والهوان في وطنهم ، والمتمثلة في الظلم والاضطهاد والفساد والتمييز والاستبداد والجوع وذهاب مقدرات البلاد للمستوطنين والأجانب والمرتزقة وحرمان المواطنين منها ، والسعي لإقناع الشباب بالحياة والحياة الكريمة فيها من خلال تحقيق العدل والمساواة بين المواطنين والشراكة السياسية والأمن الاجتماعي الشامل وإعطاء المواطنين كافة الحقوق الطبيعية والحريات الأساسية ، لأنه لا أمن ولا استقرار في أية دولة في العالم في أي زمان كان : في الماضي والحاضر والمستقبل في ظل الظلم والجور والفساد والتمييز والكبت والاضطهاد والاستبداد والجوع ، فإذا لم يقف الشباب وراء الحادث هذه المرة ، فليس من المستبعد في ظل الظروف الراهنة أن يقوموا بمثله في المستقبل ، ولن تنفع أوهام مسك العصى من النصف ، ولا الخطب التحريضية الرنانة ، ولا إصدار القوانين التعسفية لتقييد الحريات وسلب الحقوق وتشديد العقوبات باسم حفظ الأمن وسلامة المواطنين ، ولا إطلاق يد أجهزة القمع والقتل والتهديد والوعيد ، ولا تكوين اللجان الرسمية والشعبية وإقامة المؤتمرات ، ولا الحملات الإعلامية الضدية المركزة ، ولا غيرها من الوسائل البائسة العقيمة في ثني المظلومين والمضطهدين والغالبية الساحقة من أبناء الشعب عن المطالبة بحقوقهم الطبيعة المشروعة وحرياتهم الأساسية وتدفع بالبعض إلى المجازفة والممارسات الخطيرة ، فتلك الأساليب البائسة تتحول بصورة طبيعية في ظل الأوضاع السيئة والغضب العارم إلى وقود تزيد الأزمة قوة والنار اشتعالا ، وتكون في الحقيقة بمثابة صب الزيت على النار لزيادة اشتعالها بدلا من السيطرة عليها وإخماد لهيبها ، وتعجز الفتاوى الشرعية عن تقييد الشباب وضبطهم في مثل هذه الظروف .
فيا عقلاء القوم تعقلوا ،،
أيها الشرفاء من العقلاء في السلطة والموالاة والمعارضة تعقلوا ،،
لكل من يريد الأمن والاستقرار لهذا الوطن العزيز ومنع تكرار ما حدث في كرزكان والمحافظة على سمعة الوطن وأمنه وصيانة مصالح المواطنين وحقوقهم ، أعلموا أن السبيل الوحيد إلى ذلك هو معالجة الأسباب الحقيقة للأزمة والقضاء عليها ، والسعي لتعزيز الاستحقاقات الوطنية وتحقيق العدل والمساواة والشراكة السياسية الفعلية في صناعة القرار وإعطاء المواطنين كافة حقوقهم الطبيعية في الحياة ومنحهم الحريات الأساسية التي تدعو لها الفطرة السليمة وتقرها الشرائع السماوية والمواثيق الدولية ، ومن الخطأ الفادح النظر إلى النتيجة وتجاهل أسبابها ومقدماتها التي صنعتها .
وفي نهاية هذا الكلمة : أشير إلى معزوفة قديمة تشمئز منها النفوس ، وقد عرفناها منذ بداية نضالنا الوطني العملاق ، ونسمعها دائما من اسطوانات مشروخة كلما تصاعدت وتيرة نضالنا الوطني في أية حقبة من التاريخ من أجل نيل حقوقنا الطبيعية المشروعة وحرياتنا الأساسية .. وهي الأصابع الأجنبية . وقد انبثقت مخيلة أحدهم قبل يوم أو يومين عن سيناريو ، فحواه : أن الكاتب صاحب المخيلة وجد ارتباطا بين تصاعد الأزمة بين امريكا وإيران وتصاعد حركة المعارضة في الداخل ، ليستنتج وجود شبكة واسعة تدير الأعمال التخريبة لصالح إيران !!
وبهذه المناسبة : أذكر بالحوار الذي دار بيني وبين بعض القيادات الأمنية حول هذا الموضوع أثناء اعتقالي الأول في عام : 1995م ، وقد سبق لي أن نقلت مضمون هذا الحوار في مناسبات سابقة ، وأكرر نقله هذه المرة نظرا لتجدد الحاجة إليه .
كانت القيادات الأمنية تطرح وجود أصابع أجنبية تحرك انتفاضة الكرامة الشعبية في التسعينات .. فقلت لهم : أنا في قلب الانتفاضة وأعلم بعدم وجود أية أيدي أجنبية في الانتفاضة كعلمي بوجودكم . ولكن أفترض وجود هذا التدخل الأجنبي وأسأل لماذا تفاعل الناس إيجابيا معه ؟ وسألتهم هذا السؤال : لو أشعلت ولاعة في المكتب هل توجد مشكلة ؟ فأجابوا : لا توجد مشكلة . ثم سألتهم : لو كان المكتب مشبعا بالغاز وأشعلت الولاعة ، هل توجد مشكلة ؟ فجابوا : نعم . فقلت : المشكلة إذن ليس في إشعال الولاعة ، وإنما في تشبع الغرفة بالغاز . ثم قلت لهم : إذهبوا وابحثوا عن الأسباب الحقيقية لغضب الناس وعالجوها بدلا من أن تشغلوا انفسكم بأوهام لا حقيقة لها إلا في داخل أنفسكم .
وفي النهاية : أنا أعرف بأن البعض ممن يحرفون الكلم عن مواضعه ، سوف ينبري للرد على هذا الخطاب بقسوة ، ويتهم صاحبه على خلاف المقصود من الخطاب ظلما وعدوانا بالتحريض على العنف والإرهاب . إلا أني لا أكترث بمثل هؤلاء الذين أعلم بأنه لا مصداقية لهم ولا تاريخ ، ولو كنت اكترث بمثلهم لما تحدثت أصلا في هذا الموضوع . أما موقفي من استخدام العنف والقوة في المطالبة بالحقوق فهو معروف لمن يتوخى الحقيقة ويروم العدل والإصلاح في هذا البلد ، وحديثي في هذه الليلة العظيمة موجه كما قلت للشرفاء من العقلاء من أبناء هذا الوطن العزيز ، الصادقين المخلصين له الذين يريدون الخير والفلاح لأبنائه ، داعيا إياهم للتبصر والتعقل ووضع الأمور في نصابها ، بالدعوة إلى الحوار الجاد بين السلطة وقوى المعارضة والمعالجة السياسية للأسباب الحقيقة للأزمة والقضاء عليها ، والسعي لتعزيز الاستحقاقات الوطنية وتحقيق العدل والمساواة والشراكة السياسية الفعلية في صناعة القرار وإعطاء المواطنين كافة حقوقهم الطبيعية في الحياة ومنحهم الحريات الأساسية ، وأنا على يقين بأن إرادة الشعوب هي المنتصرة في نهاية المطاف ، وأن سياسة القهر والاستبداد والظلم والجور سوف تنتهي قطعا إلى مزبلة التاريخ .
أيها الأحبة الأعزاء ،،
أكتفي بهذا المقدار ،،
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم ،،
واعتذر لكم عن كل خطأ أو تقصير ،،
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء ،،
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
الموضوع : كلمة للأستاذ عبد الوهاب حسين .
المناسبة : تأبين شهداء الدير .
المكان : قرية الدير ـ الساحقة المقابلة لجامع الخيف .
العنوان : تعقلوا يا قوم .
التاريخ : 12 / ربيع الثاني / 1429هج .
الموافق : 18 / أبريل ـ نيسان / 2008م .
أعوذ بالله السميع العليم ، من شر نفسي الأمارة بالسوء ، ومن شر الشيطان الرجيم .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين .
اللهم صل على محمد وآل محمد ، وارحمنا بمحمد وآل محمد ، واهدي قلوبنا بمحمد وآل محمد ، وعرف بيننا وبين محمد وآل محمد ، واجمع بيننا وبين محمد وآل محمد ، ولا تفرق بيننا وبين محمد وآل محمد في الدنيا والآخرة طرفة عين أبدا يا كريم .
اللهم معهم .. معهم لا مع أعدائهم .
السلام عليكم أيها الأحبة : أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله تعالى وبركاته .
في البداية : رحم الله من قرأ السورة المباركة الفاتحة وأهدى ثوابها إلى أرواح شهدائنا الأبرار ( عليهم الرحمة ) .
في هذه المناسبة العظيمة : حيث أقف في محراب مقدس من محاريب الشهادة ، سوف أتحدث عن قضية حرق الجيب في قرية كرزكان ، وحديثي في الحقيقة موجه إلى الشرفاء من العقلاء من أبناء هذا الوطن العزيز { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } سواء كانوا في السلطة أو الموالاة أو المعارضة .. أما آثم القلب : الذي أغفل الله ( عز وجل ) قلبه عن ذكر الله ( جل جلاله ) وعن الحق والعدل واتبع هواه وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ، من التكفيريين والمحرضين على الفتنة الطائفية ، ومن يبيع الدين والوطن والعرض والشرف والكرامة بالمال والرياء والجاه والسمعة ، من : أصحاب الأقلام المأجورة ووعاظ السلاطين وسماسرة السياسية والمتملقين والمتزلفين ، والذين ليس لهم رأي ولا بصيرة فهم يميلون مع كل ريح وينعقون من كل ناعق ، فليس لهؤلاء جميعا نصيب في حديث الليلة ، لأنه لا نور لهم من نور الشهادة .
أيها الأحبة الأعزاء : توقعت قبل شهر ونصف تقريبا من وقوع حادث إحراق الجيب في كرزكان ، في ظل قراءة للتوتر الأمني المفاجئ في الكويت ، أن يحدث توتر أمني في البحرين ودول أخرى في المنطقة ، ليس بسبب الأوضاع المحلية فحسب ، وإنما للتطورات الإقليمية والدولية المتوقعة . وقد حدث التوتر الأمني بالفعل ، وذروته حرق الجيب ومقتل شرطي في قرية كرزكان .
وقلت قبل أسبوع تقريبا ولا زلت على هذا الرأي حتى الآن : أن حادث حرق الجيب في كرزكان ملتبس ويكتنفه الكثير من الغموض لدي . فللسلطة دواعيها المحلية والإقليمية للتصعيد الأمني ، وكثير من الشبهات التي أثيرت حول ملابسات الحادث والتغطية الإعلامية المصاحبة والتالية ، فيها قوة وتحتوي على مصداقية كبيرة ، لاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار تعارض رواية السلطة مع رواية جد الشرطي وعمه ، مما يثير الشك حول مصداقية رواية السلطة ، ويدعو إلى التريث والانتظار ، وهذا مما ينال ـ بحسب رأيي ـ من مصداقية الأصوات المتسرعة التي نصبت نفسها محققا وقاضيا وأصدرت ـ بخلاف القانون والشريعة ـ أحكاما جزافية على الأبرياء قبل أن ينتهي التحقيق وتتضح ملابسات الحادث ، وقد ألحق ذلك أضرارا جدية بالمواطنين الأبرياء وسوف تلحق بهم المزيد من الأضرار في المستقبل على أكثر من صعيد . إلا أنني لم أسقط فرضية أن يكون الشباب هم وراء الحادث ، وهذا هو موضوع حديثي في هذه الليلة .
وسواء كانت السلطة مسؤولة بصورة مباشرة عن الحادث أو غير مسؤولة ، فقد صاحب الحادث تصعيدا سياسيا وإعلاميا مركزا من قبل رموز من السلطة والموالاة ضد قوى المعارضة ، وتجييش الرأي العام طائفيا ضد طائفة تمثل مكون أساسي من مكونات هذا الشعب الأبي ورموزها الكبار ، اتهمت فيها بالخيانة والتآمر ضد الوطن ومصالحه الحيوية والعمل لأجندة خارجية وطائفية ، وبقدرة قادر : تحول اللصوص والمرتزقة إلى أصحاب حق وحماة للوطن والمواطنين ، وتحول الشرفاء وأصحاب الحق إلى مجرمين وخونة . ووصل الأمر في الحملة الطائفية إلى درجة التحريض الصريح والمباشر على القتل للرموز الكبار في الطائفة ، مثل : سماحة العلامة الشيخ عيسى أحمد قاسم ، وسماحة العلامة السيد عبد الله الغريفي ، وسماحة العلامة الشيخ حسين النجاتي ، والرمز السياسي الأستاذ حسين المشيمع ، وغيرهم . وأنا لا أريد النزول إلى هذا المستوى السافل من الطرح ، لأن من يقف وراءه والقائمين عليه يعلمون بداهة بطلانه بحكم العقل والتجربه ، ولكنهم يصرون عليه ظلما وعدوانا وشقاقا بين أبناء الشعب الواحد .
وأعود إلى أصل الموضوع : لقد حاول البعض أن يحمل السلطة المسؤولية المباشرة عن الحادث ويبرأ طرف الشباب منه بصورة نهائية . وليس لي ما لديهم من الوضوح والقطع ، ولكن أفترض أن السلطة هي وراء الحادث ، وأن الشباب بريؤون منه براءة الذئب من دم يوسف ( عليه السلام ) وأسأل : هل يوجد ضمان بأن لا يرتكب الشباب مثل هذا العمل الخطير في المستقبل ؟ والسؤال موجه إلى الشرفاء من العقلاء من أبناء هذا الوطن العزيز ، الذين يريدون له بصدق وإخلاص الأستقرار الأمني والسياسي من أجل راحة أبنائه وحفظ مصالحهم الحيوية والجوهرية .
وأرى : بأن الأستقرار الأمني والسياسي لا يمكن أن يتحقق في ظل الظروف الراهنة في البلاد والمتثملة في الأمور المهمة التالية :
الأمر ( 1 ) : استمرار آثار الانقلاب على الدستور العقدي وميثاق العمل الوطني واستمرار بقاء الأبن غير الشرعي لهذا الانقلاب وهو ( دستور : 2002 ) والمؤسسة البرلمانية الصورية المستندة إليه التي ترتهن السلطة فيها إرادة ممثلي الشعب بصورة كاملة ، حيث لا يمتلك ممثلوا الشعب أن يصدروا قانونا لا تريد السلطة صدوره ، أو يمنعوا صدور قانون تصر السلطة على صدوره ، ولا يمتلكوا سحب الثقة من أي وزير لا تريد السلطة سحب الثقة منه . وهذه الحقيقة متوافق عليها لدى الجميع ، حتى المشاركين في البرلمان بحسب الصريح من تصريحاتهم .
الأمر ( 2 ) : استمرار التجنيس السياسي المبرمج ، والتمييز الطائفي الشامل ، والحملات الإعلامية والسياسية المركزة والمبرمجة ، وكلها تستهدف الوجود المادي والمعنوي لطائفة معينة من أبناء هذا الشعب الكريم .
الأمر ( 3 ) : انخفاض الأجور وارتفاع الأسعار ، وصعوبة الحصول على السكن الملائم ، وصعوبات المعيشة الأخرى .
الأمر ( 4 ) : قمع حرية التعبير واستخدام القوة المفرطة ضد المظاهرات والمسيرات السلمية المطالبة بالحقوق الشرعية الطبيعة في الحياة والحريات الأساسية ، واستخدام العقاب الجماعي الذي يشمل الأطفال والشيوخ والنساء ، والتعرض للشرف والعرض وانتهاك الحقوق والحرمات والقتل خارج القانون ، من أجل حماية المصالح الحيوية والاستراتيجية من منظور القائمين على السلطة ، مثل : حماية العرش ، والاستفراد بالسلطة ، والاستحواذ على الثروة ، وافتعال الحوادث وتأجيج الأوضاع الأمنية لتبرير الإجراءات القمعية لمواجهة المطالب السياسية السلمية للمعارضة ، فلا ترى ولا تسمع في ظل هذه الأوضاع السيئة ، إلا شبابا محطما مكبوتا وغاضبا .
والسؤال : في ظل هذه الأوضاع السيئة والغضب العارم ، هل يستبعد العقلاء أن يقوم الشباب بممارسات خطيرة كالذي حدث في كرزكان ؟
العقلاء يعرفون : بأن لجوء الشباب إلى الممارسات الخطيرة في ظل الأوضاع السيئة والغضب العارم أمر في غاية التوقع ، إن لم يكن نتيجة طبيعة . ولهذا نجد إقبال بعض الشباب اليائس على الانتحار . وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يقف عندها الشرفاء من العقلاء من أبناء هذا الوطن العزيز ، فهم أمام شباب لا رغبة لهم في الحياة في ظل هذه الأوضاع السيئة ، واصبحوا يتمنون الموت ، ويتلقونه بصدور رحبة بدون خوف أو وجل . فإذا أراد الصادقون المخلصون لهذا الوطن الاستقرار الأمني والسياسي له ، وأن يمنعوا تكرار ما حدث في كرزكان ، فعليهم بدعوة الأطراف للحوار والتوجه نحو المعالجة السياسية والقضاء على الأسباب الحقيقية للتوتر والكبت والاحتقان وشعور المواطنين بالغربة والذل والهوان في وطنهم ، والمتمثلة في الظلم والاضطهاد والفساد والتمييز والاستبداد والجوع وذهاب مقدرات البلاد للمستوطنين والأجانب والمرتزقة وحرمان المواطنين منها ، والسعي لإقناع الشباب بالحياة والحياة الكريمة فيها من خلال تحقيق العدل والمساواة بين المواطنين والشراكة السياسية والأمن الاجتماعي الشامل وإعطاء المواطنين كافة الحقوق الطبيعية والحريات الأساسية ، لأنه لا أمن ولا استقرار في أية دولة في العالم في أي زمان كان : في الماضي والحاضر والمستقبل في ظل الظلم والجور والفساد والتمييز والكبت والاضطهاد والاستبداد والجوع ، فإذا لم يقف الشباب وراء الحادث هذه المرة ، فليس من المستبعد في ظل الظروف الراهنة أن يقوموا بمثله في المستقبل ، ولن تنفع أوهام مسك العصى من النصف ، ولا الخطب التحريضية الرنانة ، ولا إصدار القوانين التعسفية لتقييد الحريات وسلب الحقوق وتشديد العقوبات باسم حفظ الأمن وسلامة المواطنين ، ولا إطلاق يد أجهزة القمع والقتل والتهديد والوعيد ، ولا تكوين اللجان الرسمية والشعبية وإقامة المؤتمرات ، ولا الحملات الإعلامية الضدية المركزة ، ولا غيرها من الوسائل البائسة العقيمة في ثني المظلومين والمضطهدين والغالبية الساحقة من أبناء الشعب عن المطالبة بحقوقهم الطبيعة المشروعة وحرياتهم الأساسية وتدفع بالبعض إلى المجازفة والممارسات الخطيرة ، فتلك الأساليب البائسة تتحول بصورة طبيعية في ظل الأوضاع السيئة والغضب العارم إلى وقود تزيد الأزمة قوة والنار اشتعالا ، وتكون في الحقيقة بمثابة صب الزيت على النار لزيادة اشتعالها بدلا من السيطرة عليها وإخماد لهيبها ، وتعجز الفتاوى الشرعية عن تقييد الشباب وضبطهم في مثل هذه الظروف .
فيا عقلاء القوم تعقلوا ،،
أيها الشرفاء من العقلاء في السلطة والموالاة والمعارضة تعقلوا ،،
لكل من يريد الأمن والاستقرار لهذا الوطن العزيز ومنع تكرار ما حدث في كرزكان والمحافظة على سمعة الوطن وأمنه وصيانة مصالح المواطنين وحقوقهم ، أعلموا أن السبيل الوحيد إلى ذلك هو معالجة الأسباب الحقيقة للأزمة والقضاء عليها ، والسعي لتعزيز الاستحقاقات الوطنية وتحقيق العدل والمساواة والشراكة السياسية الفعلية في صناعة القرار وإعطاء المواطنين كافة حقوقهم الطبيعية في الحياة ومنحهم الحريات الأساسية التي تدعو لها الفطرة السليمة وتقرها الشرائع السماوية والمواثيق الدولية ، ومن الخطأ الفادح النظر إلى النتيجة وتجاهل أسبابها ومقدماتها التي صنعتها .
وفي نهاية هذا الكلمة : أشير إلى معزوفة قديمة تشمئز منها النفوس ، وقد عرفناها منذ بداية نضالنا الوطني العملاق ، ونسمعها دائما من اسطوانات مشروخة كلما تصاعدت وتيرة نضالنا الوطني في أية حقبة من التاريخ من أجل نيل حقوقنا الطبيعية المشروعة وحرياتنا الأساسية .. وهي الأصابع الأجنبية . وقد انبثقت مخيلة أحدهم قبل يوم أو يومين عن سيناريو ، فحواه : أن الكاتب صاحب المخيلة وجد ارتباطا بين تصاعد الأزمة بين امريكا وإيران وتصاعد حركة المعارضة في الداخل ، ليستنتج وجود شبكة واسعة تدير الأعمال التخريبة لصالح إيران !!
وبهذه المناسبة : أذكر بالحوار الذي دار بيني وبين بعض القيادات الأمنية حول هذا الموضوع أثناء اعتقالي الأول في عام : 1995م ، وقد سبق لي أن نقلت مضمون هذا الحوار في مناسبات سابقة ، وأكرر نقله هذه المرة نظرا لتجدد الحاجة إليه .
كانت القيادات الأمنية تطرح وجود أصابع أجنبية تحرك انتفاضة الكرامة الشعبية في التسعينات .. فقلت لهم : أنا في قلب الانتفاضة وأعلم بعدم وجود أية أيدي أجنبية في الانتفاضة كعلمي بوجودكم . ولكن أفترض وجود هذا التدخل الأجنبي وأسأل لماذا تفاعل الناس إيجابيا معه ؟ وسألتهم هذا السؤال : لو أشعلت ولاعة في المكتب هل توجد مشكلة ؟ فأجابوا : لا توجد مشكلة . ثم سألتهم : لو كان المكتب مشبعا بالغاز وأشعلت الولاعة ، هل توجد مشكلة ؟ فجابوا : نعم . فقلت : المشكلة إذن ليس في إشعال الولاعة ، وإنما في تشبع الغرفة بالغاز . ثم قلت لهم : إذهبوا وابحثوا عن الأسباب الحقيقية لغضب الناس وعالجوها بدلا من أن تشغلوا انفسكم بأوهام لا حقيقة لها إلا في داخل أنفسكم .
وفي النهاية : أنا أعرف بأن البعض ممن يحرفون الكلم عن مواضعه ، سوف ينبري للرد على هذا الخطاب بقسوة ، ويتهم صاحبه على خلاف المقصود من الخطاب ظلما وعدوانا بالتحريض على العنف والإرهاب . إلا أني لا أكترث بمثل هؤلاء الذين أعلم بأنه لا مصداقية لهم ولا تاريخ ، ولو كنت اكترث بمثلهم لما تحدثت أصلا في هذا الموضوع . أما موقفي من استخدام العنف والقوة في المطالبة بالحقوق فهو معروف لمن يتوخى الحقيقة ويروم العدل والإصلاح في هذا البلد ، وحديثي في هذه الليلة العظيمة موجه كما قلت للشرفاء من العقلاء من أبناء هذا الوطن العزيز ، الصادقين المخلصين له الذين يريدون الخير والفلاح لأبنائه ، داعيا إياهم للتبصر والتعقل ووضع الأمور في نصابها ، بالدعوة إلى الحوار الجاد بين السلطة وقوى المعارضة والمعالجة السياسية للأسباب الحقيقة للأزمة والقضاء عليها ، والسعي لتعزيز الاستحقاقات الوطنية وتحقيق العدل والمساواة والشراكة السياسية الفعلية في صناعة القرار وإعطاء المواطنين كافة حقوقهم الطبيعية في الحياة ومنحهم الحريات الأساسية ، وأنا على يقين بأن إرادة الشعوب هي المنتصرة في نهاية المطاف ، وأن سياسة القهر والاستبداد والظلم والجور سوف تنتهي قطعا إلى مزبلة التاريخ .
أيها الأحبة الأعزاء ،،
أكتفي بهذا المقدار ،،
واستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم ،،
واعتذر لكم عن كل خطأ أو تقصير ،،
واستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء ،،
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .