مستبدون يستكثرون على ضحاياهم اللجوء السياسي
د. سعيد الشهابي
د. سعيد الشهابي
سيظل موضوع اللجوء السياسي مثار جدل متواصل بين الحكومات العربية القمعية والدول الغربية التي تمنحه لضحايا القمع السلطوي العربي. فتارة يظهر الجدل الي العلن، وفي الاغلب تتم مناقشته في اللقاءات الخاصة.وقد يعلن عن ذلك احيانا، ولكنه يحاط بالسرية عادة. وثمة حقائق ذات صلة بمفهوم اللجوء السياسي .
بادئ ذي بدء تجدر الاشارة الي ان كل شخص هجر موطنه الأصلي أو أبعد عنه بوسائل التخويف والإرهاب أو الاضطهاد لأسباب سياسية أو عنصرية أو مذهبية ولجأ إلي إقليم دولة أخري طالباً الحماية أو العيش لحرمانه من العودة إلي وطنه الأصلي يسمي لاجئاً سياسياً في مفهوم القانون الدولي حسب ما جاء في القاموس السياسي . وجاء من بين التعريفات ايضا ان اللاجئ هو الشخص الذي ابتعد عن وطنه الذي ينتمي إليه خشية أو هربا من الاضطهاد لأسباب تتعلق بالعرق أو الدين أو الجنسية أو الرأي السياسي أو الانتماء إلي فئة اجتماعية خاصة ولا يريد إن يضع نفسه تحت حماية بلده الأصلي .
ومع ان هذا المصطلح اصبح شائعا في العالم الغربي في العقود الاخيرة، نظرا لتزايد عدد اللاجئين الي هذه البلدان، فقد كان له أسس متينة في التاريخ الاسلامي. فقد ورد في القرآن مصطلح الهجرة الذي كثيرا ما اقترن بـ الايمان كقوله تعالي: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَة اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ البقرة 218، وفي آيات أخري عديدة. وعندما تعرض المسلمون في السنوات الاولي للبعثة النبوية للاضطهاد علي ايدي قريش، هاجروا الي الحبشة مرتين. وتذكر كتب السيرة انه لما اشتد الأذي بأصحاب رسول الله قال لهم: لو خرجتم إلي أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق حتي يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه ، فهاجر الي الحبشة التي كانت تحت حكم النجاشي، في المرة الاولي (في العام 616 ميلادية) ثلاثة وثمانون رجلا.
وحدثت الهجرة الثانية في العام التالي وضمت عددا اكبر من الرجال والنساء. وكان من بين النساء المهاجرات رقية بنت رسول الله وأسماء بنت عميس، وسهلة بنت سهيل، وأم سلمة، ورملة بنت أبي سفيان. وقد تطور مفهوم الهجرة ليعرف في المصطلح الحديث بـ اللجوء السياسي ، ومن خلال متابعة تاريخ الهجرة او اللجوء يتضح ان هناك علاقة اضطرادية بينه وبين تخلف النظام السياسي الذي يحكم البلدان، وان اللجوء يتم عادة باتجاه واحد: من البلدان المحكومة بانظمة القهر والاستبداد والتخلف، باتجاه البلدان الاكثر انفتاحا والاقوي نماء واقتصادا. فكلما ازداد القمع تفاقمت ظاهرة الفرار من قبل معارضي ذلك النظام. وقد شهدت العقود الثلاثة الاخيرة تصاعد ظاهرة طلب اللجوء السياسي من قبل اعداد كبيرة من النشطاء السياسيين بالدول العربية، باتجاه اوروبا والولايات المتحدة الامريكية. حتي اصبحت الآن تمثل مشكلة كبيرة ذات ابعاد اقتصادية وثقافية ودينية، تفرض نفسها علي الساسة الذين يجدون انفسهم في موقف صعب وهم يبحثون عن الموقف الامثل ازاء ظاهرة الهجرة. هؤلاء الساسة ملزمون، وفق قوانين بلدانهم التي صدقت علي الاعلان العالمي لحقوق الانسان، بمنح حق اللجوء لمن يطلبه وفق شروط محددة. وتنص المادة 14 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان علي ان لكل فرد الحق في أن يلجأ إلي بلاد أخري أو يحاول الالتجاء إليها هرباً من الاضطهاد .
اما الاتفاقية الدولية المتعلقة بأوضاع اللاجئين لسنة 1951 فتقوم علي مبدئين أساسيين: اولهما ان لا يكون هناك تمييز فاضح بين الرعايا الوطنيين من جهة واللاجئين من جهة أخري. وثانيهما أن لا يكون هناك تمييز علي أساس العرق أو الدين أو دولة الأصل بين اللاجئين. ومن أهم أحكام هذه الاتفاقية المادة (33) التي نصت علي ما يلي: أولا: منع الدول المتعاقدة من طرد أو ترحيل لاجئ إلي حدود أراضي دولة تكون حياته أو حريته مهددة بالخطر بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو آرائه السياسية أو انتمائه إلي فئة اجتماعية معينة . ثانيا: ليس للاجئ أن يتمسك بالانتفاع بهذا الحكم اذا قامت أسباب جدية لاعتباره خطرا علي امن الدولة الموجود فيها أو شكل خطرا علي هذه الدولة أو بسبب صدور حكم نهائي ضده في جناية أو جنحة بالغة الخطورة .
هذه الاتفاقات الدولية، خصوصا الاعلان العالمي لحقوق الانسان، يفترض ان تشكل الاساس الذي يحكم مواقف الدول التي وقعت علي الاعلان، وان تقر مبدأ منح حق اللجوء لطالبيه اذا توفرت له الشروط. ولكن هناك عددا من الملاحظات المهمة: اولها ان الدول العربية محكومة في الأعم الأغلب بأنظمة حكم قمعية، لا تمارس الديمقراطية ولا تحترم حقوق الانسان، وبالتالي كثيرا ما لجأ النشطاء والمعارضون فيها للبحث عن لجوء سياسي في الدول الغربية. ثانيها: ان هذه الدول تعتبر منح اللجوء السياسي لمعارضيها عملا عدائيا او علي الأقل غير ودي من قبل الدول التي تسمح للمعارضين باللجوء اليها. ثالثها: ان طبيعة الانظمة القمعية الحاكمة في أغلب الدول العربية لا تسمح بقيام معارضة فاعلة لها، وهذا يدفعها للتشبث بمقولات وقيم لا تنسجم مع روح القانون الدولي. فهي مثلا تعتبر ان اية معارضة تهديد لأمن الدولة .
وحيث انها لا تسمح بقيام الاحزاب السياسية ولا توفر لمواطنيها حق الانتماء للتنظيمات والاحزاب، فكثيرا ما لجأ النشطاء الي اخفاء انتماءاتهم وتنظيماتهم، الامر الذي تعتبره الانظمة جريمة وتحاكم معارضيها بتهمة الانتماء لتنظيم محظور يهدف لتغيير نظام الحكم . هذه التهمة تتكرر كثيرا في لوائح الاتهام التي توجه للنشطاء السياسيين اذا قدموا لمحاكم امن الدولة التي لا تتوفر علي أدني مستوي من المعايير الدولية للمحاكمات العادلة. وكثيرا ما اتهم المعارضون بانهم ارهابيون لانهم يرفضون النظام الفردي او القبلي الذي لا يحظي بدعم شعبي، ولا يستمد شرعيته من دستور يقره الشعب عبر استفتاء علني شامل. واصبحت تهمة الارهاب تلصق بمن يعارض تلك الانظمة، وتعتبر مواقفه الرافضة للقوانين التي تفرض علي الناس بالقوة، دليلا علي الارهاب او التخطيط لقلب نظام الحكم او الانتماء لتنظيم محظور . هذه هي التهم التي توجه للنشطاء في بلدان تتظاهر بالديمقراطية، مثل مصر والبحرين، وفي البلدان التي لا تدعيها مثل السعودية. الغريب في الامر ان خواء هذه الانظمة يصل مدي يدفع للاستغراب، ويكرس الشعور بعدم صلاحيتها للبقاء لعدم امتلاكها المقومات الدستورية والانسانية لذلك البقاء. فمنح حق اللجوء السياسي لبضعة نفر من المعارضين لحكومة ما يدفع مسؤوليها احيانا للخروج عما هو منطقي ومعقول من المواقف والتصريحات. ففي التسعينات اثارت السعودية قضية السماح ببعض معارضيها علي الاراضي البريطانية، وسعي بعض مسؤوليها لربط استمرار صفقة اليمامة بترحيلهم.
المسؤولون السعوديون يجهلون، او يتجاهلون، ان بريطانيا محكومة بقوانين متينة لا تسمح للسياسيين بالتدخل المباشر في قضايا ليست ضمن صلاحياتهم المباشرة. صحيح ان بالامكان التحايل علي بعض القوانين، ولكن هذا التحايل كثيرا ما ادي الي انكشاف امر المتحايلين، فدفعوا الثمن غاليا. وما قرار المحكمة العليا مؤخرا بعدم قانونية الغاء التحقيق في الرشاوي التي دفعت لبعض المسؤولين السعوديين لضمان صفقة اليمامة، الا دليل علي ان التحايل والالتفاف اساليب غير مجدية. بل ان هناك الآن جدلا واسعا حول قضية اعتقال خمسة عشر من الجنود البريطانيين العام الماضي من قبل السلطات الايرانية، وتوجيه الاتهام لوزير الدفاع بانه سعي لتضليل البرلمان حول القضية، بالقول انهم كانوا لحظة الاعتقال في المياه العراقية، بينما تشير وثائق وزارة الدفاع انهم ربما كانوا في المياه الايرانية.
ان قوة القانون هي التي تضمن قوة النظام السياسي، وليس الافراد. وبالتالي لا يحق للاشخاص محاولة تجاوز القانون او التحايل عليه، او التدخل في قضايا ليست من اختصاصهم او لا تقع ضمن صلاحياتهم. وهناك امثلة كثيرة علي الوزراء الذين دفعوا اثمانا باهظة بسبب محاولاتهم اختراق القانون او تجاوزه. وهذا هو الفرق بين النظام المحكوم بالقانون، والنظام المحكوم بالفرد. وثمة مثال آخر علي خواء بعض الانظمة العربية بسبب عدم احترامها حكم القانون، والسعي المتواصل لتجاوز القانون الدولي في ما يتعلق بحق الافراد. فعلي مدي الاعوام الثمانية الاخيرة لم يمنح من المعارضين البحرانيين حق اللجوء السياسي في بريطانيا سوي ثلاثة اشخاص.
مع ذلك، شنت السلطات البحرينية في الشهور الاخيرة حملات سياسية واعلامية بلا حدود ضد قرار المنح. وفي الاسبوع الماضي التقي وزير الداخلية البحريني مع السفير البريطاني، جيمي باودن، في المنامة لابلاغه انزعاج حكومته الشديد ازاء ذلك. وادعي الوزير، راشد بن عبد الله آل خليفة، ان بعض هؤلاء اللاجئين مرتبط بجهات في لبنان وايران، تسعي لزعزعة الامن والاستقرار في البحرين. بل سعي الوزير لربط اللاجئين بحادثة قتل شرطي اجنبي يعمل ضمن القوات البحرينية في حادثة غامضة الاسبوع الماضي ترفض الحكومة اجراء تحقيق مستقل فيها. وفيما كان الوزير البحريني يطرح جانبه من القصة، كان السفير البريطاني يطلق تصريحات عامة لطمأنة الوزير، مع عدم تعريض نفسه للمساءلة القانونية فيما لو قال ما يناقض القانون او الحقيقة.
وهذا هو الفرق بين دولة الاستبداد ودولة القانون. فالوزير المنتمي لنظام الاستبداد لا يتورع عن اطلاق التهم جزافا، والانطلاق كحاكم مطلق غير مقيد بشرعة او قانون، بينما المسؤول المنتمي لنظام يحكمه القانون، وليس الفرد او القبيلة، يبحث عن كلماته بدقة، ويتجاوز توجيه الاتهامات للآخرين بدون دليل، لعلمه انه سيدفع الثمن غاليا فيما لو ارتكب خطأ مكشوفا وهو في موقع المسؤولية. الوزير الذي ينتمي لنظام الاستبداد يعتبر ان من يعارض ذلك الحكم الاستبدادي مجرم و ارهابي ولا يؤمن بمبدأ تشكيل لجنة تحقيق مستقلة عندما يقتل شخص، أيا كان، ويعتقد ان التهويل والافتراء والزيف أمور تكفي لادانة مناوئي نظام الحكم الذي ينتمي اليه. بينما النظام الذي يعتبر نفسه مسؤولا امام مواطنيه، يجد نفسه ملزما بفتح تحقيق في قضية مقتل الاميرة ديانا مثلا، كلف خزينة الدولة اكثر من عشرة ملايين جنيه استرليني، بعد ان استطاع محمد الفايد ، والد عماد الذي قتل معها، اثارة الشكوك في ظروف الحادثة.
وقد جرت العادة علي التحقيق في اغلب حالات الوفاة، كل ذلك من اجل الوصول الي قدر معقول من الحقيقة. بينما يرفض وزير الداخلية البحريني اجراء تحقيق في قضايا القتل خارج القانون التي سقط ضحيتها عشرات المواطنين، وآخرهم علي جاسم مكي في شهر كانون الاول (ديسمبر) الماضي. ان التباين في القيم والمعايير بين التخلف والتحضر، اصبح سمة بارزة في المجتمع المعاصر، وهو تباين يفسر تداعي قيمة الانسان وحياته في المجتمعات العربية المحكومة بالانظمة الديكتاتورية القمعية، ورغبة الكثيرين في الفرار بانفسهم وارواحهم وكراماتهم من تلك الانظمة، علي امل العيش بقدر من الامن والكرامة. وفيما عدا قلة ضئيلة جدا سارت في طريق العنف والتمرد علي القانون وتهديد الامن في البلدان المضيفة، فان الغالبية الساحقة تلتزم بقوانينها وتساهم في تطويرها، علميا وثقافيا وانسانيا. ان المشكلة ليست في النشطاء الذين يبحثون عن ملجأ آمن يعيشون فيه ويبنون حياتهم بعيدا عن عيون زوار الفجر و زنزانات التعذيب والأساليب الشيطانية في ايذاء الآدميين والتفنن في الحاق الضرر بهم.
المشكلة تكمن في النظام السياسي الذي يمارس اساليب تكميم الافواه، ويمارس الاستبداد المطلق، ويصادر عقول المواطنين وكراماتهم وانسانيتهم، ويستغل السلطة ليس لاعمار البلاد وحماية العباد، بل للتفرعن والطغيان ونهب اموال الفقراء. لو كان لدي هذه الانظمة شيء من الانسانية لما بحث الأحرار عن اللجوء السياسي، ولما قطعوا البحار والجبال والوديان بحثا عن ملاجئ آمنة. فما أكثر الذين لقوا حتفهم في أعالي البحار هربا من جحيم هذه الانظمة التي ابتلي الله أمتنا بها، او ماتوا اختناقا في الشاحنات المكتظة بركابها كعلب السردين. هذه الانظمة المستبدة تستكثر علي المظلومين من ابناء الامة تنفس الهواء الطلق، او التمتع بقدر من الحرية، لانهم يرون في بقاء الاحرار تهديدا لانظمتهم ويرفضون اهم دعامات الممارسة الديمقراطية والاصلاح السياسي كالرقابة والمحاسبة وحكم القانون، والمرجعية الدستورية المستندة الي الدعم الشعبي.
ہ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن