الشهادة منتهى الصدق مع الله
عبدالجليل السنكيس
2 مايو 2008م
إحتفال تأبين الشهيدين فاضل عباس ونضال النشابة
ساحة كرزكان- البحرين
عبدالجليل السنكيس
2 مايو 2008م
إحتفال تأبين الشهيدين فاضل عباس ونضال النشابة
ساحة كرزكان- البحرين
بسم الله الرحمن الرحيم
"من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا"
صدق الله العظيم
ونحن نقف على أبواب الولوج في أحد معاني الشهادة، نتوقف لبرهة لنتشرف بقراءة سورة المباركة الفاتحة ونهدي ثوابها لشهيدينا الغاليين وشهداء البحرين سائلين المولى أن يرسلها لهم سلاماً عطراً منا جميعاً ببركة محمد وآل محمد.
أول ما طلب مني الأخوة الأعزاء التشرف بإلقاء كلمة بالمناسبة، لم أجد قدرة على منع نفسي من التفكر في معنى من معاني الشهادة، وهو الصدق. وكما جاء في الآية المباركة أعلاه، فإن الصدق صفة من صفات المؤمنين، ولكن أي مؤمنين؟ هل هم كل المؤمنين، أم نخبة مصطفاة منهم؟ الظاهر من الآية الكريمة أن المقصود هو الحصر لا الإطلاق. أي أن بين المؤمنين ثلة ومجموعة تتميز بأنها دخلت مع الله سبحانه وتعالى في ما يشبه "الإتفاقية" أو العهد أو الرباط. هذا العهد ليس ليس ملزماً على أولئك الثلة، ولكنهم ألزموا أنفسهم لله حباً فيه وذواباً في القربى منه. هم مؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ولكن شغفهم في التقرب لله سبحانه وتعالى جعلهم يعاهدونه بالعهود والمواثيق التي لم يفعلها غيرهم. هذه العهود، فوق الإيمان به والألتزام بدينه، أن يقدموا ما يملكون فداءاًَ لدينه الحنيف. وهم يقومون بذلك، أي وهم يبذلون ويعطون ويقدمون القربات، لايهمهم أن يقع الموت عليهم أو يقعون عليه. الأمر لديهم سيان، فلم يعد الموت عامل مؤثر على التزامهم بما عاهدوا الله به. كل ما يهمهم أنهم يفون بتلك العهود.. أن يصدقوا مع الله.. أن يلتزموا بإيفاء ما نذروا أنفسهم له. وسواء جاءهم الموت الذي كتب على الجميع، أم تأخر الى أجل، هم على العهد باقون، ولم يتبدل عندهم ذلك العهد من العطاء والبذل، مهما طال الزمان ومهما تطاولت الخطوب.
فدعونا نبحر في الصدق أولاً، ونعرج في آخره في الربط بالشهادة.
الصدق الذي نتحدث عنه هنا هو مطابقة في القول والفعل وحتى في النية. يعني أن يطابق محدثات العقل الباطن أو التفكير أو ما يطلق عليه النية ولم لا ينطق به الإنسان، مطابقة ذلك مع ما يصدر منه من ترجمان القول والفعل.
المائدة (آية:119): قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ابدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم
الصدق الذي نقصده، ليس أن تقول شيئاً أو تعد بشيئاً أمام الآخرين وتلتزم به، هذا أبسط مستويات الصدق، إن صح التعبير، كما أنه أسهلها- حسب ما اعتقد. وما نقصده أن تصدق في ترجمة ما يجول في خواطرك وأفكارك التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. وهذا ما يقودنا الى مستويات أو أنواع الصدق وهي ثلاثة.
أولها هو الصدق مع الآخرين:
أن يتطابق ما يصدر منك من إلتزامات قولية وفعلية مع بعضه البعض. أي أن يرى منك الناس أنك تفي بوعدك إذا وعدت، وان تقول الحقيقة، وأن لا تشهد شهادة الزور لا بقول أو فعل إو حتى إقرار. وارقى ما في هذا النوع أن تقول الحق وتلتزم به حتى لو على نفسك " قل الحق ولو على نفسط". يكبر الإنسان عند الآخرين، عندما يلتزم بالقول والفعل حتى وإن بدى أن فيه ضرر شخصي، مادي أو معنوي. وسجية الإنسان أن يُـحب ويذكر بالذكر الطيب، وأن يكون محل عنوان الصدق والألتزام به. ولهذا يحرص الناس على أن يكونوا قدر الإمكان في موقع أن يقال عنهم أنهم صادقين. ولهذا كثر المنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون وما تؤمن به نفوسهم، والنفاق هو دلالة على خوف الإنسان بأن يظهر بحقيقته بأنه غير صادق وملتزم. طبعاً هناك معاني للنفاق، ولكننا نركز هنا على بعض مستدعيات النفاق عند البعض، وهو حب الظهور بمظهر الصدق والصادقين.
الاعراف آية:70):قالوا اجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد اباؤنا فاتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين )
الاعراف آية:106):قال ان كنت جئت بايه فات بها ان كنت من الصادقين )
هود آية:32):قالوا يا نوح قد جادلتنا فاكثرت جدالنا فاتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين )
الحجر آية:7):لو ما تاتينا بالملائكه ان كنت من الصادقين )
الشعراء آية:154):ما انت الا بشر مثلنا فات بايه ان كنت من الصادقين )
الاحقاف آية:22):قالوا اجئتنا لتافكنا عن الهتنا فاتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين)
هل هناك اختبار أو ميزان لهذا النوع من الصدق؟ نعم.. هناك. وقد اشرنا في معرض الحديث عن هذا النوع من الصدق مع الآخرين، وهو الشهادة على النفس دون الإضطرار. أي أن يشهد الإنسان ويعترف على نفسه أو يقول الحقيقة حتى وإن أخذ البعض منه موقفاً، حينها يقال بأن الإنسان حقيقة صادق مع الآخرين. الشهادة أو الصدق تحت أي نوع من أنواع الضغوط – القوة، القانون، المجتمع، القضاء، وغيره- هو صدق إضطراري، وعليه لايمكن الحكم على الإنسان بأنه صادق مع الآخرين.
ولكن، هل يستطيع الإنسان أن يبدو أنه صادق مع الآخرين، ولكنه غير ذلك؟ بمعنى: هل يظهر الإنسان أمراً غير الحقيقة في نفسه والواقع؟ نعم.. هذا ممكن. القرآن الكريم كان واضحاً في ذلك حين قال عن رب العزة " بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره" أي مهما تعذر الإنسان، وأظهر أمراً ما، فهو بينه وبين نفسه، يعلم الحقيقة. وهذا ما يقودنا للنوع أو المستوى الثاني من الصدق.
الصدق مع النفس:
ويعتبر هذا المستوى أرقى من الأول، لأنه الشهود عليه إثنان فقط: الإنسان نفسه والله سبحانه وتعالى. ولأنه بعيد عن علم أومحاسبة أو رقابة الناس، وهو ما يحاسب له الكثير من البشر، فإن مستوى الإلتزام به يعبر عن رقي في التعاطي البشري.
يستطيع الإنسان أن يخدع جميع الناس، بما فيهم أقرب الناس إليه، والديه، زوجته، أبناء، أصدقاءه. ولكن، لا يستطيع أن يخفي الأمر على نفسه. ولهذا ومع أن الله سبحانه وتعالى يجزي الإنسان على التزامه الصدق مع الناس، ولكنه عز وجل، يجل ويقدر الصدق مع النفس. فالصدق مع النفس هي بداية التوجه والإستعداد للصدق مع الله سبحانه وتعالى.
الاحزاب (آية:8):ليسال الصادقين عن صدقهم واعد للكافرين عذابا اليما)
السؤال هنا للتأكيد على أن أولئك الصادقين صدقوا مع أنفسهم، في قبال الكافرين الذين تنكروا لفطرتهم ولدعاوى الهداية وأصروا على الغواية والضلال، حتى وإن وصلتهم إشارات ومعالم الصراط المستقيم.
الاحزاب (آية:24): ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين ان شاء او يتوب عليهم ان الله كان غفورا رحيما(
ومن ثم يأتي الجزاء الأوفى من الله سبحانه وتعالى للصادقين الذين صدقوا مع أنفسهم، ولم يختاروا غير ما هداهم الله إليه. ولم يظهروا عكس ما يبطنون، فلهم عذاب أليم, إلا أن يتوبوا الى الله وهو الغفور الرحيم.
والصادقون مع أنفسهم، لا يبالون ما يعتقده الآخرون، ولا يهتموا لما يلمزون. هم ارتضوا لأنفسهم الدرب، ولم يكن في قناعتهم أن يكون رضا الآخرين شرط من شروط المواصلة على الدرب. هم وصلوا لقناعة أن الله يعلم ما في أنفسهم، وعاهدوا أن لا يخالفوا تلك القناعة حتى وإن غضب القريبون، وزعل البعض منهم. يقولوا الحق ويلتزموا به، وليرضى من يرضى وليغضب من يغضب.
ثالثها الصدق مع الله:
هذا المستوى من الصدق قد يفهمه البعض أنه صدق مع النفس، وقد قدمت بأن الصدق مع النفس هو توطئة للصدق مع الله. وأقرب المعنى أكثر من هذا الآية المباركة.
البقرة آية:207): ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد)
وكأن هذا الأنسان، باع أمراً لشخص آخر، فلم يعد ملكاً له، وليس من حقه التصرف فيه أو الحصول على رضاه. ومن المشتري، ياترى؟ الله سبحانه وتعالى.
هذا الإنسان الصادق مع نفسه، لم يكفه ذلك، ولكنه قرر أن يبيع نفسه على الله- وهو الغني عن كل شي- وجعل نفسه تحت أمر الله وحده. لا يفكر لنفسه، لا يعمل لنفسه، لا يعيش لنفسه وإنما لله سبحانه وتعالى. لقد سخر نفسه لله وجعل كل البذل له وحده، ولا يهمه حتى نفسه.
"إنما هي نفسي أروضها بالتقوى أو للتقوى" كما جاء على لسان الإمام علي "ع".
جسده، يتعب، نفسه تدوخ، كل ذلك لا يهم ولا يعيره اهتمام. وهنا ليس فقط الناس والإقربون، بل حتى النفس ليس لها مجال تقرير التوقف أو الإستمرار. المهم أن يكون الله سبحانه وتعالى يرضى. وهذا ما يأت بنا للربط بين الشهادة والصدق مع الله سبحانه وتعالى
الصدق والشهادة:
حيث أن الشهادة هي قمة البذل والعطاء والوفاء به، فهي تعبر عن أعلى مصاديق التفاني والحب والصدق مع المحبوب، مع الله سبحانه وتعالى. . قال رسول الله "ص": "فوق كل بر بر، حتى يقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله عز وجل، فليس فوقه بر.."
البر هو العطاء والبذل. يستطيع الإنسان أن يعطي ما يريد وما يستطيع، ولكن العطاء مستوايات، وأعلاها، وأعظمها الشهادة. بذل النفس في سبيل الله سبحانه وتعالى. "فوق كل بر بر، حتى يقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله عز وجل، فليس فوقه بر..". متى ما نال الإنسان هذا الموقع، موقع الشهادة، فقد نال الشرف الأكبر.
التوبة آية:119):يا ايها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)
ولهذا جاءت الدعوة الإلهية لنيل هذا المقام، فاضافة للتقوى والبعد عن المعاصي والورع، يسعى الإنسان الذي يريد رضى الله الأكبر الى أن يكون من ضمن الصادقين بعد أن نال مرتبة الإيمان وصار من المؤمنين، واتقى الله وصار من المتقين.
ولهذا من ينال الشهادة، فقد نال موقع الصدق مع الله سبحانه وتعالى، وضمن رضاه ورضوانه. الشهداء عند ربهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون مع الصدقين والصادقين
فصلت (آية:30): ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكه الا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنه التي كنتم توعدون
جعلنا الله واياكم من الذين يقولون القول ويتبعون أحسنه، وهدانا لطريق الصدق ووفقنا لأن نكون من الصادقين ومع الصادقين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
"من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا"
صدق الله العظيم
ونحن نقف على أبواب الولوج في أحد معاني الشهادة، نتوقف لبرهة لنتشرف بقراءة سورة المباركة الفاتحة ونهدي ثوابها لشهيدينا الغاليين وشهداء البحرين سائلين المولى أن يرسلها لهم سلاماً عطراً منا جميعاً ببركة محمد وآل محمد.
أول ما طلب مني الأخوة الأعزاء التشرف بإلقاء كلمة بالمناسبة، لم أجد قدرة على منع نفسي من التفكر في معنى من معاني الشهادة، وهو الصدق. وكما جاء في الآية المباركة أعلاه، فإن الصدق صفة من صفات المؤمنين، ولكن أي مؤمنين؟ هل هم كل المؤمنين، أم نخبة مصطفاة منهم؟ الظاهر من الآية الكريمة أن المقصود هو الحصر لا الإطلاق. أي أن بين المؤمنين ثلة ومجموعة تتميز بأنها دخلت مع الله سبحانه وتعالى في ما يشبه "الإتفاقية" أو العهد أو الرباط. هذا العهد ليس ليس ملزماً على أولئك الثلة، ولكنهم ألزموا أنفسهم لله حباً فيه وذواباً في القربى منه. هم مؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ولكن شغفهم في التقرب لله سبحانه وتعالى جعلهم يعاهدونه بالعهود والمواثيق التي لم يفعلها غيرهم. هذه العهود، فوق الإيمان به والألتزام بدينه، أن يقدموا ما يملكون فداءاًَ لدينه الحنيف. وهم يقومون بذلك، أي وهم يبذلون ويعطون ويقدمون القربات، لايهمهم أن يقع الموت عليهم أو يقعون عليه. الأمر لديهم سيان، فلم يعد الموت عامل مؤثر على التزامهم بما عاهدوا الله به. كل ما يهمهم أنهم يفون بتلك العهود.. أن يصدقوا مع الله.. أن يلتزموا بإيفاء ما نذروا أنفسهم له. وسواء جاءهم الموت الذي كتب على الجميع، أم تأخر الى أجل، هم على العهد باقون، ولم يتبدل عندهم ذلك العهد من العطاء والبذل، مهما طال الزمان ومهما تطاولت الخطوب.
فدعونا نبحر في الصدق أولاً، ونعرج في آخره في الربط بالشهادة.
الصدق الذي نتحدث عنه هنا هو مطابقة في القول والفعل وحتى في النية. يعني أن يطابق محدثات العقل الباطن أو التفكير أو ما يطلق عليه النية ولم لا ينطق به الإنسان، مطابقة ذلك مع ما يصدر منه من ترجمان القول والفعل.
المائدة (آية:119): قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ابدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم
الصدق الذي نقصده، ليس أن تقول شيئاً أو تعد بشيئاً أمام الآخرين وتلتزم به، هذا أبسط مستويات الصدق، إن صح التعبير، كما أنه أسهلها- حسب ما اعتقد. وما نقصده أن تصدق في ترجمة ما يجول في خواطرك وأفكارك التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. وهذا ما يقودنا الى مستويات أو أنواع الصدق وهي ثلاثة.
أولها هو الصدق مع الآخرين:
أن يتطابق ما يصدر منك من إلتزامات قولية وفعلية مع بعضه البعض. أي أن يرى منك الناس أنك تفي بوعدك إذا وعدت، وان تقول الحقيقة، وأن لا تشهد شهادة الزور لا بقول أو فعل إو حتى إقرار. وارقى ما في هذا النوع أن تقول الحق وتلتزم به حتى لو على نفسك " قل الحق ولو على نفسط". يكبر الإنسان عند الآخرين، عندما يلتزم بالقول والفعل حتى وإن بدى أن فيه ضرر شخصي، مادي أو معنوي. وسجية الإنسان أن يُـحب ويذكر بالذكر الطيب، وأن يكون محل عنوان الصدق والألتزام به. ولهذا يحرص الناس على أن يكونوا قدر الإمكان في موقع أن يقال عنهم أنهم صادقين. ولهذا كثر المنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون وما تؤمن به نفوسهم، والنفاق هو دلالة على خوف الإنسان بأن يظهر بحقيقته بأنه غير صادق وملتزم. طبعاً هناك معاني للنفاق، ولكننا نركز هنا على بعض مستدعيات النفاق عند البعض، وهو حب الظهور بمظهر الصدق والصادقين.
الاعراف آية:70):قالوا اجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد اباؤنا فاتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين )
الاعراف آية:106):قال ان كنت جئت بايه فات بها ان كنت من الصادقين )
هود آية:32):قالوا يا نوح قد جادلتنا فاكثرت جدالنا فاتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين )
الحجر آية:7):لو ما تاتينا بالملائكه ان كنت من الصادقين )
الشعراء آية:154):ما انت الا بشر مثلنا فات بايه ان كنت من الصادقين )
الاحقاف آية:22):قالوا اجئتنا لتافكنا عن الهتنا فاتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين)
هل هناك اختبار أو ميزان لهذا النوع من الصدق؟ نعم.. هناك. وقد اشرنا في معرض الحديث عن هذا النوع من الصدق مع الآخرين، وهو الشهادة على النفس دون الإضطرار. أي أن يشهد الإنسان ويعترف على نفسه أو يقول الحقيقة حتى وإن أخذ البعض منه موقفاً، حينها يقال بأن الإنسان حقيقة صادق مع الآخرين. الشهادة أو الصدق تحت أي نوع من أنواع الضغوط – القوة، القانون، المجتمع، القضاء، وغيره- هو صدق إضطراري، وعليه لايمكن الحكم على الإنسان بأنه صادق مع الآخرين.
ولكن، هل يستطيع الإنسان أن يبدو أنه صادق مع الآخرين، ولكنه غير ذلك؟ بمعنى: هل يظهر الإنسان أمراً غير الحقيقة في نفسه والواقع؟ نعم.. هذا ممكن. القرآن الكريم كان واضحاً في ذلك حين قال عن رب العزة " بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره" أي مهما تعذر الإنسان، وأظهر أمراً ما، فهو بينه وبين نفسه، يعلم الحقيقة. وهذا ما يقودنا للنوع أو المستوى الثاني من الصدق.
الصدق مع النفس:
ويعتبر هذا المستوى أرقى من الأول، لأنه الشهود عليه إثنان فقط: الإنسان نفسه والله سبحانه وتعالى. ولأنه بعيد عن علم أومحاسبة أو رقابة الناس، وهو ما يحاسب له الكثير من البشر، فإن مستوى الإلتزام به يعبر عن رقي في التعاطي البشري.
يستطيع الإنسان أن يخدع جميع الناس، بما فيهم أقرب الناس إليه، والديه، زوجته، أبناء، أصدقاءه. ولكن، لا يستطيع أن يخفي الأمر على نفسه. ولهذا ومع أن الله سبحانه وتعالى يجزي الإنسان على التزامه الصدق مع الناس، ولكنه عز وجل، يجل ويقدر الصدق مع النفس. فالصدق مع النفس هي بداية التوجه والإستعداد للصدق مع الله سبحانه وتعالى.
الاحزاب (آية:8):ليسال الصادقين عن صدقهم واعد للكافرين عذابا اليما)
السؤال هنا للتأكيد على أن أولئك الصادقين صدقوا مع أنفسهم، في قبال الكافرين الذين تنكروا لفطرتهم ولدعاوى الهداية وأصروا على الغواية والضلال، حتى وإن وصلتهم إشارات ومعالم الصراط المستقيم.
الاحزاب (آية:24): ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين ان شاء او يتوب عليهم ان الله كان غفورا رحيما(
ومن ثم يأتي الجزاء الأوفى من الله سبحانه وتعالى للصادقين الذين صدقوا مع أنفسهم، ولم يختاروا غير ما هداهم الله إليه. ولم يظهروا عكس ما يبطنون، فلهم عذاب أليم, إلا أن يتوبوا الى الله وهو الغفور الرحيم.
والصادقون مع أنفسهم، لا يبالون ما يعتقده الآخرون، ولا يهتموا لما يلمزون. هم ارتضوا لأنفسهم الدرب، ولم يكن في قناعتهم أن يكون رضا الآخرين شرط من شروط المواصلة على الدرب. هم وصلوا لقناعة أن الله يعلم ما في أنفسهم، وعاهدوا أن لا يخالفوا تلك القناعة حتى وإن غضب القريبون، وزعل البعض منهم. يقولوا الحق ويلتزموا به، وليرضى من يرضى وليغضب من يغضب.
ثالثها الصدق مع الله:
هذا المستوى من الصدق قد يفهمه البعض أنه صدق مع النفس، وقد قدمت بأن الصدق مع النفس هو توطئة للصدق مع الله. وأقرب المعنى أكثر من هذا الآية المباركة.
البقرة آية:207): ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد)
وكأن هذا الأنسان، باع أمراً لشخص آخر، فلم يعد ملكاً له، وليس من حقه التصرف فيه أو الحصول على رضاه. ومن المشتري، ياترى؟ الله سبحانه وتعالى.
هذا الإنسان الصادق مع نفسه، لم يكفه ذلك، ولكنه قرر أن يبيع نفسه على الله- وهو الغني عن كل شي- وجعل نفسه تحت أمر الله وحده. لا يفكر لنفسه، لا يعمل لنفسه، لا يعيش لنفسه وإنما لله سبحانه وتعالى. لقد سخر نفسه لله وجعل كل البذل له وحده، ولا يهمه حتى نفسه.
"إنما هي نفسي أروضها بالتقوى أو للتقوى" كما جاء على لسان الإمام علي "ع".
جسده، يتعب، نفسه تدوخ، كل ذلك لا يهم ولا يعيره اهتمام. وهنا ليس فقط الناس والإقربون، بل حتى النفس ليس لها مجال تقرير التوقف أو الإستمرار. المهم أن يكون الله سبحانه وتعالى يرضى. وهذا ما يأت بنا للربط بين الشهادة والصدق مع الله سبحانه وتعالى
الصدق والشهادة:
حيث أن الشهادة هي قمة البذل والعطاء والوفاء به، فهي تعبر عن أعلى مصاديق التفاني والحب والصدق مع المحبوب، مع الله سبحانه وتعالى. . قال رسول الله "ص": "فوق كل بر بر، حتى يقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله عز وجل، فليس فوقه بر.."
البر هو العطاء والبذل. يستطيع الإنسان أن يعطي ما يريد وما يستطيع، ولكن العطاء مستوايات، وأعلاها، وأعظمها الشهادة. بذل النفس في سبيل الله سبحانه وتعالى. "فوق كل بر بر، حتى يقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله عز وجل، فليس فوقه بر..". متى ما نال الإنسان هذا الموقع، موقع الشهادة، فقد نال الشرف الأكبر.
التوبة آية:119):يا ايها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)
ولهذا جاءت الدعوة الإلهية لنيل هذا المقام، فاضافة للتقوى والبعد عن المعاصي والورع، يسعى الإنسان الذي يريد رضى الله الأكبر الى أن يكون من ضمن الصادقين بعد أن نال مرتبة الإيمان وصار من المؤمنين، واتقى الله وصار من المتقين.
ولهذا من ينال الشهادة، فقد نال موقع الصدق مع الله سبحانه وتعالى، وضمن رضاه ورضوانه. الشهداء عند ربهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون مع الصدقين والصادقين
فصلت (آية:30): ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكه الا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنه التي كنتم توعدون
جعلنا الله واياكم من الذين يقولون القول ويتبعون أحسنه، وهدانا لطريق الصدق ووفقنا لأن نكون من الصادقين ومع الصادقين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.