بيدك لا بيد عمرو #4:
الرسالة ُ الثانية: مَا هـَـكـذا تـُـورَدُ يـَا شَـيخُ الإبـل
عبدالجليل السنكيس
17 مارس 2009م
كنت قد بدأت في صياغة هذا الخطاب منذ مدة، ولكنني لم أكن أشعر حينها بأن الوقت كان موائماً له. ولا أشك بأنني لست الوحيد من أبناء هذا الوطن البررة الشرفاء المخلصين من يرون بأن هناك مشكلة حقيقية بين من هو على سدة الحكم وأبناء هذا البلد والمحكومين. تتمثل هذه المشكلة في التسلط المفرط والدكتاتورية في صنع القرار (قرار الوطن والأجيال)، والاستحواذ الكامل والنهم في الإستيلاء على جميع مصادر الثروة في البلاد، والعمل على تدمير البنية البشرية والهوية التاريخية للبحرين. وأن هذه المعضلة تعمل على "ضعضعة" و "هـز" أي بنيان للثقة بين العائلة الحاكمة وبين الشعب. ولا أود أن أستهين بمشاعر الموالين- لأي سبب كان- أو المناصرين أو المنتفعين، ولكن أشير تحديداً لأبناء الشعب الذين تولدت قناعة راسخة لديهم بأن وجودهم وكيانهم مستهدف، دون مبرر عقلاني، عبر برامج النظام. وهؤلاء ليسوا بقلة- كماً وكيفاً- بغض النظر عن عدد من تم توطينيهم عبر برنامج الإستيطان وتغيير التركيبة السكانية.
لم تتبلور هذه النتيجة بين ليلة وضحاها، بل لم تكن بمحض صدفة أو ضغينة. هي نتاج الآلام ومعاناة مستمرة، تشريد وتفقير وإستهداف وإلغاء، بكل معانيها عند أبناء هذا الوطن الأصليين من الشيعة والسنة. هذه ليست أحاسيس طائشة لحظية ومراهقة بل يقين ممارسة وشعور متمكن. وهل يمكن لغيور وشريف أن ينسى شهداء الوطن وتضحياتهم، ومعاناة السجناء وتعذيبهم، أو يتغافل عن آهات الأمهات والزوجات والبنات على آبائهم في قعور السجون والمعتقلات وهم تحت سياط الضرب والتعذيب؟ وهل يمكن أن تغمض العين ويستقر الفؤاد وهو يرى الشباب الضائع، ومستقبلهم المجهول، وآمالهم المدفونة، وهم يرون وأمام أعينهم خيرات بلدهم تنهب– بالقانون وحمايته- وتعطى لغيرهم ممن غير مستحقيها، بينما لهم العوز والحرمان والجوع والقهر؟
البعض يدعي بأن المشكلة ليست في الموجودين على سدة الحكم، وإنما في "الحاشية" الذين "يتحكمون" في نوعية وكمية وحقيقة المعلومة المطلوبة لصنع القرارات وبرامج ومتابعة تنفيذها. البعض يذهب أكثر حين يلوم أولئك "الحاشية" ويبرئ أصحاب القرار والمسئولية المباشرة. فهل يمكن للموجودين على سدة الحكم جهل ما يجري في البلاد؟ إن كانوا لا يعلمون، وأشك في ذلك، فتلك مصيبة عظمى. وإن كانوا يعلمون، وهذا ما أجزم به، فالمصيبة أعظم.
لقد مضى أكثر من عام على رسالتي الأولى التي وجهتها لأكبر مسئولين في هذا البلد، قارعاً الجرس للمرة الأولى لعلي أصل الأسباب وتنفتح الألباب لتلاحق ما يجري في هذا البلد من دمار وتدمير متعدد المحاور. وحتى أقيم الحجة مرة أخرى، هآنذا أوجه الخطاب في رسالة ثانية، راجياً الإصلاح ما استطعت اليه سبيلا، وعلى الله قصد السبيل. في المرة السابقة، كتبت الرسالة وأنا في السماء العالية بين السحب، وهذه المرة، أبى النظام وقادته إلا منعي من السفر- بعد أن كسر باب منزلي في فجر الإثنين 26 يناير الماضي وأرعب الأهل والجيران واعتقلني وحبسني في السجن الإنفرادي- كما عمل لأخويي المشيمع والمقداد. لم يكتف بمراقبة كل خطوط التواصل معي (وهذا ليس ادعاءاً، ففي ما جاء من تحقيق أمن الدولة في لباسه "الاصلاحي" الجديد عبر جهاز الإرهاب ما يدلل على ذلك)، بل استهدف المساحة الإلكترونية، فمدوناتي محظورة، وحتى بعض الوصلات على صفحتي على الفيس بوك طالها الحظر.
يتصور النظام بأن منعي من السفر، والتجسس على خصوصياتي ومكالماتي، وبريدي الإلكتروني، وحظر المواقع الشخصية لي، فإن هذا سوف يوقف ما يصل للعالم الحر من معلومات عن حقيقة الوضع السيء والرديء للبحرين. إنني أجزم، بأن هذه المسلكية من النظام هي ما خلق التعاطف أكثر مع قضية هذا الشعب المغلوب على أمره.
الشيخ حمد..
أكتب هذا الخطاب، وهو الأول بعد خروجي من المعتقل وقبل حضوري لأول محاكمة لي على الإطلاق. هي محكمة "الرأي والضمير" في 24 مارس، وهي في حقيقة الأمر محاكمة للنظام الذي لم يستطع أن يتحمل أن نقول له "لا".. لا يتقبل أن نقول له بكل وضوح وصراحة: نحن نختلف معكم ورأينا مغاير. نحن أحرار، منحنا الله العلي القدير العقل والإرادة لنعبر عن مكنون ذلك.. عن عزتنا.. عن إحساسنا بالكرامة.. عن رفضنا لكل معاني الذل القبلي والمعاملة غير الإنسانية.. نعبر عن رفضنا لكل عناوين المكرمات ولعق الأحذية. ونحن مصرون على هذا الموقف لأننا نعبر عن ذواتنا وقناعاتنا، وليقض النظام ما هو قاض، إنما يقض هذه الحياة الدنيا، ولنا في الله خير معين وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الجبار.
لن نحيد عن حقنا..
أتذكر وأذكركم بقصة الشيخ الجليل ميثم التمار، عندما اعتقله الحكم الأموي الطاغي وتم صلبه وقطع لسانه لأنه كان يمارس حقه في التعبير. أعرف بأنك تحب القراءة في التاريخ ولهذا أشير لك بالبحث عن عبارة ذلك المجاهد وموضعها حين قال:"والله ما نبتت هذه النخلة إلاّ لي ولا عشت إلاّ لها". وحتى تمنع أمثالنا من الحديث والتعبير عن قناعاتهم للعلن، ما عليك إلا اتباع سياسة نظام آل أمية مع ميثم التمار: الحبس..قطع الألسن والصلب، ثم القتل. ولن يكون هناك حينها فرق، بين حكم بني أمية وحكمكم إلا في تقنية أسلوب العقاب والطغيان.
إنكم مسئولون..
لدي تساءلات عدة، أتعجب وأنا أراقب ما يصدر، بشكل متكرر ومتصاعد، من ديوانكم وحكومتكم تجاه هذا الشعب. أتساءل عن الغاية والنتيجة المحصلة لهذه الممارسات. هل هي تعمق وتقوي العلاقة بينكم وبين الشعب، أم تزيد الشقة والتباعد؟ هل هذا ما تريدونه أن يحصل، أم إنكم لا تدركون ذلك؟ هل توجهكم قطع جذور ارتباط عائلتكم بهذه الأرض الذي دام اكثر من قرنين، أم أنكم لا تحسون بالإرتباط،ولهذا لا تبالون؟ هل يعني لكم أصالة هذا الشعب شيء؟ أم أنكم ومن هم محسوبون عليكم تعيشون عقدة الأصالة والإنتماء؟
لا أعتقد بأن حديث وزير الإرهاب مع الناشطة غادة جمشير وحديثه الصلف معها بأن "حربكم هي مع الشيعة لا مع غيرهم، وأن هذه الحرب ستتواصل" هو حديث عابر وترف فكري. إنه يعبر عن مكنون مخزون وتوجه مبرمج، وما جاء به تقريري البندر عنا ببعيد. إنكم بلا شك ملامون، بل متهمون ومتورطون في هذه الحرب التي أعلنها وزير الإرهاب ويحس الجميع تداعياتها في الليل والنهار، فهو محسوب عليكم، وأحد سواعدكم كما أعلم.
إنكم متورطون في التآمر على شعب البحرين عبر جريمة الإستيطان التي تستهدف وجوده وكيانه وتاريخه وثقافته. لقد رأيت وثائق قديمة بنفسي، كيف أن والدكم الشيخ عيسى الراحل في بداية الثمانينات يستلم خطابات التجنيس الجماعية من وزيري الدفاع والداخلية طالبين تجنيس منتسبي الوزارتين وعائلاتهم، وكان يحولها إليكم للمتابعة والتنفيذ حين كنتم ولياً للعهد. فقد كنتم مسئولين عن هذا الملف منذ ذلك الأمد.
إنكم مسئولون عن فقر وعوز هذا الشعب. أموال وخيرات البحرين تنقل لكم على "جمال الولاء"، بينما ينال النزر القليل منها من يتواصل معكم متملقاً ومتقرباً يرجو الحظوة والمكانة على حساب كرامة نفسه وعزتها. إنكم مسئولون عن خصخصة البحرين، وتحويلها لمشروع استثماري ضخم، تقسمونه لنيل الرضا واستحصال الدعم لكم، على أفراد عائلتكم ومن يلوك معهم، وعلى "فقراء أمراء الخليج، وليسوا بفقراء". الأرض والبحر تقسم وتوزع على الموالين، ولأبناء الشعب العوز والفقر. بل إنكم لا تبالون بما يحدث من تدمير لبنية البحر وبيئته وأثر ذلك على معيشة أبناء الشعب الذين يعتاشون عليه وعلى مصادره.
آه على بلدي التي صارت بسبب سياساتكم وبرامجكم مرتعاً للعهر والرذيلة والفجور والمخدرات. هل تعلمون بأن التقارير الدولية تضع المنامة على ثامن السلم العالمي في قائمة مدن الرذيلة والإثم: العهر الممنهج، المخدرات، الإتجار بالبشر والمسكرات؟ أهل هذا إنجاز أم تدمير لسمعة البحرين وتاريخ شعبها الناصع؟ أعلم الشغف والحب للإرقام القياسية، وهذا السجل، في ظرف عقد واحد من الحكم سيضاف الى تاريخكم.
ومتى صارت البحرين فقيرة، والعمارات الشاهقة تملء الوديان والسواحل، والمدن المتطورة المملوكة لكم ولإبناءكم والمحسوبون عليكم موزعة على أطراف البلد. ومتى صارت بعض بنات البحرين ونساءها العفيفات، يضطررن لبيع أجسادهن لكي يعيشوا دون أن يمددن أيديهن لأحد؟ أليس ذلك مخزياً ومغضباً ومثيراً للحمية والغيرة؟ متى صارت البحرين، بلد العلم والأخلاق والكرم، ملجأ العصابات والمافيا ومرتادي الرذيلة والعهر والمخدرات والسكر؟ متى؟ متى؟
ما هكذا يا شيخ..
لا شك في أن هناك أزمة ثقة يعيشها الطرفان، عائلتكم وأعداد كبيرة من أبناء الشعب.. ولا يمكن بناء هذه الثقة، إن كانت تهمكم’ من خلال رقصات العرضة ورفع السيوف والبنادق مع بوش و"ربعه"، ولا باستحضار جلسات الدعم والولاء من قادة التأزيم العربي. هي ليست بالإستعراض العسكري وجلب المرتزقة وتمكينهم من البلاد وخيراتها وتهجير البحرينيين. ليست بالإرتماء في أحضان الصهاينة واللقاءات المشبوهة والمتكررة باليهود وقادتهم في لندن وواشنطن.
هي ليست بالعقاب الجماعي واستهداف المدنيين (من أطفال، وشباب ونساء وكبار سن) بالرصاص المطاطي والشوزن والغازات الكيماوية.. هي ليست بغلق المساجد ومنع المصلين وضرب المعزين وتمزيق الشعارات الدينية لأبناء الشعب.. هي ليست بترك الكلاب المسعورة تنهش في شرف وسمعة أبناء الشعب على صفحات الجرائد والمنابر العامة.
أستطيع أن أملء الصفحات والصفحات معدداً مواطن التأزيم، وتعميق الهوة. أهذا موضع فخر وتفاخر بين الأمم، أم محل تندر وتوضيع لسمعة البحرين وشعبها العزيز؟
ما هكذا تزرع الثقة؟ ما هكذا تتحق التنمية البشرية؟ ما هكذا ينمو الأمن والإزدهار في بلدنا الحبيبة البحرين؟ ما هكذا تنبى الأوطان؟ ما هكذا تورد يا شيخُ الإبل؟
بيدك.. لا بيد غيرك..
تستطيع إطفاء النيران، وزرع الأمل وإعادة الحياة لأبناء الشعب.. فبيدك تحصد ما تزرع، ولك أن تقرر ما يخص جذوركم في هذا البلد. إما أن تخلد ذكركم بالخير، دون مجاملة أو خوف، ويحفر أسمكم في القلوب. وإما يربط أسمكم بكل عناوين الحقد والكراهية والبغضاء والغل. أنت تستطيع التغيير، إن وفرت عناصره ومتطلباته.
أتصور أنكم تتذكرون بعض ما جرى في سترة الأبية في 2001م، ومعاني تعالي الشعب عن جراحاته ومعاناته، ولكن ليس بنقض العهود وليس عبر الخداع، فأؤكد لكم، بأن ذاك الوقت قد فات، وإن فترة الميثاق فرصة ذهبية، لقد أضعتها وأضاعتها عائلتك، فبئس المستشارون من أشاروا عليك بالإنقلاب على كلمات "الرجال" وتعهداتهم أمام الملأ والعلن. نصيحتي أن تستبعد كل أولئك، فقد أدخلوا البلاد في أزمة لا يعلم إلا الله مداها.
بيدك أن تستعيد شذرات الأمل التي شممتها في 2001م، ولكنك تحتاج إلى جرأة الأبطال، وهمة الخالدين.. نعم، إنني لا أمتدحك، ولكن أرسل لك اشتراطات التغيير التي تتطلب أن توقف ما يحدث من تدمير لهذا البلد.. البحرين التي ولدت فيها وترعرعت، وعاش فيها آباءك وأبناءك، ولك قرار الإستمرار أو أن يتوقف تاريخكم في هذا البلد. نعم.. تحتاج الى إرادة حديدية، قرارات لا مجاملة فيها، ولا مراعاة للموتورين ومرضى النفوس والنفعيين. أولئك.. يا أبا سلمان.. لا يريدوا منفعتك، ولكنهم يحافظون على وجودهم وعلى تدفق الثروات وبقاء السلطة لديهم. إنهم مرض معدً وعليك قطع الأوصال التي صابها. وأقول أنه بيدك لا بيد غيرك عودة المياه، ولكن أنت مطالب.
أنت مطالب بأن ترد الإعتبار لشعب البحرين، وتعلن إعترافك به كشعب له سلطات تعبر عن إرادته..دستورك الذي فرضته في 2002م، لا يعبر عن إرادة الشعب. إلغاء تلك الوثيقة وفتح المجال لدستور ديمقراطي عصري يصيغه أفراد الشعب، سوف يعبر عن نقلة في تاريخ الخليج وشعوبها، فهل أنت قدر هذا التغيير، فهو بيدك لا بيد عمرو؟
أنت مطالب بأن تعيد الإطمئنان لشعب البحرين المهدد في وجوده وكيانه وثقافته وتاريخه. ما حدث ويحدث من إستيطان بشع لم يحدث لشعب عربي مسلم، غير الشعب الفلسطيني المظلوم. بيدك تغيير ما حدث من أضرار الإستيطان، وعودة الوضع الطبيعي وزرع الأمل في نفوس المواطنين، فهل أنت راغب في عكس ما بدأته عائلتك منذ حل برلمان 75م، فهو بيدك لابيد عمرو؟
أنت مطالب بتأكيد شعار "الوطن والمواطن أولا"، بدلاً من "عائلتك وديوانك أولاً". أنت مطالب بتصحيح وضع التمايز والتمييز بكل أنواعه الذي كرستموه منذ سنين، وعرفت به حكومة البحرين- الطائفية بإمتياز. هل يمكن أن تدخل التاريخ من بابه الحقيقي وتضرب مثلاً في تصحيح الوضع الطائفي والقبلي البغيض، فذلك بيدك لا بيد عمرو؟
شعب البحرين.. شعب التسامح والتعالي فوق الجراح. وقد دفع التضحيات عبر السنين، مناكفاً الغزاة وراغباً في الحياة الحرة الكريمة. ولن يتوقف هذا الشعب من المقاومة، والعطاء من روحه ودمه من أجل أن يكون. ومهما ظلم الطغاة وتجبروا عبر السنين، فإن السنن الإلهية بالمرصاد، وهي التي تقرر، بقدرة الله، استمرار حاكم، وإستبدال آخر، ونهاية قبيلة، وفناء عائلة، فالأمور كلها بيده، والأمر الذي لا يرضا به الله عز وجل، الظلم والطغيان. فلقد أخذ على نفسه بأنه"يمهل ولا يهمل".
فالعجل العجل، قبل أن تتدخل السنن.. العجل العجل قبل أن يقول التاريخ كلمته، فبيدك لا بيد عمرو.
الرسالة ُ الثانية: مَا هـَـكـذا تـُـورَدُ يـَا شَـيخُ الإبـل
عبدالجليل السنكيس
17 مارس 2009م
كنت قد بدأت في صياغة هذا الخطاب منذ مدة، ولكنني لم أكن أشعر حينها بأن الوقت كان موائماً له. ولا أشك بأنني لست الوحيد من أبناء هذا الوطن البررة الشرفاء المخلصين من يرون بأن هناك مشكلة حقيقية بين من هو على سدة الحكم وأبناء هذا البلد والمحكومين. تتمثل هذه المشكلة في التسلط المفرط والدكتاتورية في صنع القرار (قرار الوطن والأجيال)، والاستحواذ الكامل والنهم في الإستيلاء على جميع مصادر الثروة في البلاد، والعمل على تدمير البنية البشرية والهوية التاريخية للبحرين. وأن هذه المعضلة تعمل على "ضعضعة" و "هـز" أي بنيان للثقة بين العائلة الحاكمة وبين الشعب. ولا أود أن أستهين بمشاعر الموالين- لأي سبب كان- أو المناصرين أو المنتفعين، ولكن أشير تحديداً لأبناء الشعب الذين تولدت قناعة راسخة لديهم بأن وجودهم وكيانهم مستهدف، دون مبرر عقلاني، عبر برامج النظام. وهؤلاء ليسوا بقلة- كماً وكيفاً- بغض النظر عن عدد من تم توطينيهم عبر برنامج الإستيطان وتغيير التركيبة السكانية.
لم تتبلور هذه النتيجة بين ليلة وضحاها، بل لم تكن بمحض صدفة أو ضغينة. هي نتاج الآلام ومعاناة مستمرة، تشريد وتفقير وإستهداف وإلغاء، بكل معانيها عند أبناء هذا الوطن الأصليين من الشيعة والسنة. هذه ليست أحاسيس طائشة لحظية ومراهقة بل يقين ممارسة وشعور متمكن. وهل يمكن لغيور وشريف أن ينسى شهداء الوطن وتضحياتهم، ومعاناة السجناء وتعذيبهم، أو يتغافل عن آهات الأمهات والزوجات والبنات على آبائهم في قعور السجون والمعتقلات وهم تحت سياط الضرب والتعذيب؟ وهل يمكن أن تغمض العين ويستقر الفؤاد وهو يرى الشباب الضائع، ومستقبلهم المجهول، وآمالهم المدفونة، وهم يرون وأمام أعينهم خيرات بلدهم تنهب– بالقانون وحمايته- وتعطى لغيرهم ممن غير مستحقيها، بينما لهم العوز والحرمان والجوع والقهر؟
البعض يدعي بأن المشكلة ليست في الموجودين على سدة الحكم، وإنما في "الحاشية" الذين "يتحكمون" في نوعية وكمية وحقيقة المعلومة المطلوبة لصنع القرارات وبرامج ومتابعة تنفيذها. البعض يذهب أكثر حين يلوم أولئك "الحاشية" ويبرئ أصحاب القرار والمسئولية المباشرة. فهل يمكن للموجودين على سدة الحكم جهل ما يجري في البلاد؟ إن كانوا لا يعلمون، وأشك في ذلك، فتلك مصيبة عظمى. وإن كانوا يعلمون، وهذا ما أجزم به، فالمصيبة أعظم.
لقد مضى أكثر من عام على رسالتي الأولى التي وجهتها لأكبر مسئولين في هذا البلد، قارعاً الجرس للمرة الأولى لعلي أصل الأسباب وتنفتح الألباب لتلاحق ما يجري في هذا البلد من دمار وتدمير متعدد المحاور. وحتى أقيم الحجة مرة أخرى، هآنذا أوجه الخطاب في رسالة ثانية، راجياً الإصلاح ما استطعت اليه سبيلا، وعلى الله قصد السبيل. في المرة السابقة، كتبت الرسالة وأنا في السماء العالية بين السحب، وهذه المرة، أبى النظام وقادته إلا منعي من السفر- بعد أن كسر باب منزلي في فجر الإثنين 26 يناير الماضي وأرعب الأهل والجيران واعتقلني وحبسني في السجن الإنفرادي- كما عمل لأخويي المشيمع والمقداد. لم يكتف بمراقبة كل خطوط التواصل معي (وهذا ليس ادعاءاً، ففي ما جاء من تحقيق أمن الدولة في لباسه "الاصلاحي" الجديد عبر جهاز الإرهاب ما يدلل على ذلك)، بل استهدف المساحة الإلكترونية، فمدوناتي محظورة، وحتى بعض الوصلات على صفحتي على الفيس بوك طالها الحظر.
يتصور النظام بأن منعي من السفر، والتجسس على خصوصياتي ومكالماتي، وبريدي الإلكتروني، وحظر المواقع الشخصية لي، فإن هذا سوف يوقف ما يصل للعالم الحر من معلومات عن حقيقة الوضع السيء والرديء للبحرين. إنني أجزم، بأن هذه المسلكية من النظام هي ما خلق التعاطف أكثر مع قضية هذا الشعب المغلوب على أمره.
الشيخ حمد..
أكتب هذا الخطاب، وهو الأول بعد خروجي من المعتقل وقبل حضوري لأول محاكمة لي على الإطلاق. هي محكمة "الرأي والضمير" في 24 مارس، وهي في حقيقة الأمر محاكمة للنظام الذي لم يستطع أن يتحمل أن نقول له "لا".. لا يتقبل أن نقول له بكل وضوح وصراحة: نحن نختلف معكم ورأينا مغاير. نحن أحرار، منحنا الله العلي القدير العقل والإرادة لنعبر عن مكنون ذلك.. عن عزتنا.. عن إحساسنا بالكرامة.. عن رفضنا لكل معاني الذل القبلي والمعاملة غير الإنسانية.. نعبر عن رفضنا لكل عناوين المكرمات ولعق الأحذية. ونحن مصرون على هذا الموقف لأننا نعبر عن ذواتنا وقناعاتنا، وليقض النظام ما هو قاض، إنما يقض هذه الحياة الدنيا، ولنا في الله خير معين وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الجبار.
لن نحيد عن حقنا..
أتذكر وأذكركم بقصة الشيخ الجليل ميثم التمار، عندما اعتقله الحكم الأموي الطاغي وتم صلبه وقطع لسانه لأنه كان يمارس حقه في التعبير. أعرف بأنك تحب القراءة في التاريخ ولهذا أشير لك بالبحث عن عبارة ذلك المجاهد وموضعها حين قال:"والله ما نبتت هذه النخلة إلاّ لي ولا عشت إلاّ لها". وحتى تمنع أمثالنا من الحديث والتعبير عن قناعاتهم للعلن، ما عليك إلا اتباع سياسة نظام آل أمية مع ميثم التمار: الحبس..قطع الألسن والصلب، ثم القتل. ولن يكون هناك حينها فرق، بين حكم بني أمية وحكمكم إلا في تقنية أسلوب العقاب والطغيان.
إنكم مسئولون..
لدي تساءلات عدة، أتعجب وأنا أراقب ما يصدر، بشكل متكرر ومتصاعد، من ديوانكم وحكومتكم تجاه هذا الشعب. أتساءل عن الغاية والنتيجة المحصلة لهذه الممارسات. هل هي تعمق وتقوي العلاقة بينكم وبين الشعب، أم تزيد الشقة والتباعد؟ هل هذا ما تريدونه أن يحصل، أم إنكم لا تدركون ذلك؟ هل توجهكم قطع جذور ارتباط عائلتكم بهذه الأرض الذي دام اكثر من قرنين، أم أنكم لا تحسون بالإرتباط،ولهذا لا تبالون؟ هل يعني لكم أصالة هذا الشعب شيء؟ أم أنكم ومن هم محسوبون عليكم تعيشون عقدة الأصالة والإنتماء؟
لا أعتقد بأن حديث وزير الإرهاب مع الناشطة غادة جمشير وحديثه الصلف معها بأن "حربكم هي مع الشيعة لا مع غيرهم، وأن هذه الحرب ستتواصل" هو حديث عابر وترف فكري. إنه يعبر عن مكنون مخزون وتوجه مبرمج، وما جاء به تقريري البندر عنا ببعيد. إنكم بلا شك ملامون، بل متهمون ومتورطون في هذه الحرب التي أعلنها وزير الإرهاب ويحس الجميع تداعياتها في الليل والنهار، فهو محسوب عليكم، وأحد سواعدكم كما أعلم.
إنكم متورطون في التآمر على شعب البحرين عبر جريمة الإستيطان التي تستهدف وجوده وكيانه وتاريخه وثقافته. لقد رأيت وثائق قديمة بنفسي، كيف أن والدكم الشيخ عيسى الراحل في بداية الثمانينات يستلم خطابات التجنيس الجماعية من وزيري الدفاع والداخلية طالبين تجنيس منتسبي الوزارتين وعائلاتهم، وكان يحولها إليكم للمتابعة والتنفيذ حين كنتم ولياً للعهد. فقد كنتم مسئولين عن هذا الملف منذ ذلك الأمد.
إنكم مسئولون عن فقر وعوز هذا الشعب. أموال وخيرات البحرين تنقل لكم على "جمال الولاء"، بينما ينال النزر القليل منها من يتواصل معكم متملقاً ومتقرباً يرجو الحظوة والمكانة على حساب كرامة نفسه وعزتها. إنكم مسئولون عن خصخصة البحرين، وتحويلها لمشروع استثماري ضخم، تقسمونه لنيل الرضا واستحصال الدعم لكم، على أفراد عائلتكم ومن يلوك معهم، وعلى "فقراء أمراء الخليج، وليسوا بفقراء". الأرض والبحر تقسم وتوزع على الموالين، ولأبناء الشعب العوز والفقر. بل إنكم لا تبالون بما يحدث من تدمير لبنية البحر وبيئته وأثر ذلك على معيشة أبناء الشعب الذين يعتاشون عليه وعلى مصادره.
آه على بلدي التي صارت بسبب سياساتكم وبرامجكم مرتعاً للعهر والرذيلة والفجور والمخدرات. هل تعلمون بأن التقارير الدولية تضع المنامة على ثامن السلم العالمي في قائمة مدن الرذيلة والإثم: العهر الممنهج، المخدرات، الإتجار بالبشر والمسكرات؟ أهل هذا إنجاز أم تدمير لسمعة البحرين وتاريخ شعبها الناصع؟ أعلم الشغف والحب للإرقام القياسية، وهذا السجل، في ظرف عقد واحد من الحكم سيضاف الى تاريخكم.
ومتى صارت البحرين فقيرة، والعمارات الشاهقة تملء الوديان والسواحل، والمدن المتطورة المملوكة لكم ولإبناءكم والمحسوبون عليكم موزعة على أطراف البلد. ومتى صارت بعض بنات البحرين ونساءها العفيفات، يضطررن لبيع أجسادهن لكي يعيشوا دون أن يمددن أيديهن لأحد؟ أليس ذلك مخزياً ومغضباً ومثيراً للحمية والغيرة؟ متى صارت البحرين، بلد العلم والأخلاق والكرم، ملجأ العصابات والمافيا ومرتادي الرذيلة والعهر والمخدرات والسكر؟ متى؟ متى؟
ما هكذا يا شيخ..
لا شك في أن هناك أزمة ثقة يعيشها الطرفان، عائلتكم وأعداد كبيرة من أبناء الشعب.. ولا يمكن بناء هذه الثقة، إن كانت تهمكم’ من خلال رقصات العرضة ورفع السيوف والبنادق مع بوش و"ربعه"، ولا باستحضار جلسات الدعم والولاء من قادة التأزيم العربي. هي ليست بالإستعراض العسكري وجلب المرتزقة وتمكينهم من البلاد وخيراتها وتهجير البحرينيين. ليست بالإرتماء في أحضان الصهاينة واللقاءات المشبوهة والمتكررة باليهود وقادتهم في لندن وواشنطن.
هي ليست بالعقاب الجماعي واستهداف المدنيين (من أطفال، وشباب ونساء وكبار سن) بالرصاص المطاطي والشوزن والغازات الكيماوية.. هي ليست بغلق المساجد ومنع المصلين وضرب المعزين وتمزيق الشعارات الدينية لأبناء الشعب.. هي ليست بترك الكلاب المسعورة تنهش في شرف وسمعة أبناء الشعب على صفحات الجرائد والمنابر العامة.
أستطيع أن أملء الصفحات والصفحات معدداً مواطن التأزيم، وتعميق الهوة. أهذا موضع فخر وتفاخر بين الأمم، أم محل تندر وتوضيع لسمعة البحرين وشعبها العزيز؟
ما هكذا تزرع الثقة؟ ما هكذا تتحق التنمية البشرية؟ ما هكذا ينمو الأمن والإزدهار في بلدنا الحبيبة البحرين؟ ما هكذا تنبى الأوطان؟ ما هكذا تورد يا شيخُ الإبل؟
بيدك.. لا بيد غيرك..
تستطيع إطفاء النيران، وزرع الأمل وإعادة الحياة لأبناء الشعب.. فبيدك تحصد ما تزرع، ولك أن تقرر ما يخص جذوركم في هذا البلد. إما أن تخلد ذكركم بالخير، دون مجاملة أو خوف، ويحفر أسمكم في القلوب. وإما يربط أسمكم بكل عناوين الحقد والكراهية والبغضاء والغل. أنت تستطيع التغيير، إن وفرت عناصره ومتطلباته.
أتصور أنكم تتذكرون بعض ما جرى في سترة الأبية في 2001م، ومعاني تعالي الشعب عن جراحاته ومعاناته، ولكن ليس بنقض العهود وليس عبر الخداع، فأؤكد لكم، بأن ذاك الوقت قد فات، وإن فترة الميثاق فرصة ذهبية، لقد أضعتها وأضاعتها عائلتك، فبئس المستشارون من أشاروا عليك بالإنقلاب على كلمات "الرجال" وتعهداتهم أمام الملأ والعلن. نصيحتي أن تستبعد كل أولئك، فقد أدخلوا البلاد في أزمة لا يعلم إلا الله مداها.
بيدك أن تستعيد شذرات الأمل التي شممتها في 2001م، ولكنك تحتاج إلى جرأة الأبطال، وهمة الخالدين.. نعم، إنني لا أمتدحك، ولكن أرسل لك اشتراطات التغيير التي تتطلب أن توقف ما يحدث من تدمير لهذا البلد.. البحرين التي ولدت فيها وترعرعت، وعاش فيها آباءك وأبناءك، ولك قرار الإستمرار أو أن يتوقف تاريخكم في هذا البلد. نعم.. تحتاج الى إرادة حديدية، قرارات لا مجاملة فيها، ولا مراعاة للموتورين ومرضى النفوس والنفعيين. أولئك.. يا أبا سلمان.. لا يريدوا منفعتك، ولكنهم يحافظون على وجودهم وعلى تدفق الثروات وبقاء السلطة لديهم. إنهم مرض معدً وعليك قطع الأوصال التي صابها. وأقول أنه بيدك لا بيد غيرك عودة المياه، ولكن أنت مطالب.
أنت مطالب بأن ترد الإعتبار لشعب البحرين، وتعلن إعترافك به كشعب له سلطات تعبر عن إرادته..دستورك الذي فرضته في 2002م، لا يعبر عن إرادة الشعب. إلغاء تلك الوثيقة وفتح المجال لدستور ديمقراطي عصري يصيغه أفراد الشعب، سوف يعبر عن نقلة في تاريخ الخليج وشعوبها، فهل أنت قدر هذا التغيير، فهو بيدك لا بيد عمرو؟
أنت مطالب بأن تعيد الإطمئنان لشعب البحرين المهدد في وجوده وكيانه وثقافته وتاريخه. ما حدث ويحدث من إستيطان بشع لم يحدث لشعب عربي مسلم، غير الشعب الفلسطيني المظلوم. بيدك تغيير ما حدث من أضرار الإستيطان، وعودة الوضع الطبيعي وزرع الأمل في نفوس المواطنين، فهل أنت راغب في عكس ما بدأته عائلتك منذ حل برلمان 75م، فهو بيدك لابيد عمرو؟
أنت مطالب بتأكيد شعار "الوطن والمواطن أولا"، بدلاً من "عائلتك وديوانك أولاً". أنت مطالب بتصحيح وضع التمايز والتمييز بكل أنواعه الذي كرستموه منذ سنين، وعرفت به حكومة البحرين- الطائفية بإمتياز. هل يمكن أن تدخل التاريخ من بابه الحقيقي وتضرب مثلاً في تصحيح الوضع الطائفي والقبلي البغيض، فذلك بيدك لا بيد عمرو؟
شعب البحرين.. شعب التسامح والتعالي فوق الجراح. وقد دفع التضحيات عبر السنين، مناكفاً الغزاة وراغباً في الحياة الحرة الكريمة. ولن يتوقف هذا الشعب من المقاومة، والعطاء من روحه ودمه من أجل أن يكون. ومهما ظلم الطغاة وتجبروا عبر السنين، فإن السنن الإلهية بالمرصاد، وهي التي تقرر، بقدرة الله، استمرار حاكم، وإستبدال آخر، ونهاية قبيلة، وفناء عائلة، فالأمور كلها بيده، والأمر الذي لا يرضا به الله عز وجل، الظلم والطغيان. فلقد أخذ على نفسه بأنه"يمهل ولا يهمل".
فالعجل العجل، قبل أن تتدخل السنن.. العجل العجل قبل أن يقول التاريخ كلمته، فبيدك لا بيد عمرو.