لكم الله يا "أولاد الملحة"
عبدالجليل السنكيس
البحرين: 15 مايو 2006م
تواترت أخبار عن جمع تبرعات في بعض المناطق المحرومة بهدف بناء حديقة ومكتبة. فطرأ علي بالي سؤال. لماذا يتحمل الأهالي، مع ضيق الحال، مسئولية الدولة؟ ولماذا يتم استنزاف موارد أفراد الشعب –المحدودة- على مشاريع هي أصلاً من مسئوليات الدولة؟ أليس هذا أمر عجيب؟ نعم، هذا شعور راقي في التكامل الإجتماعي. ولكن ليس هذا صلب الموضوع، مع إحترامنا للقائمين والقائمات على هذا النوع من المشاريع.
وحتى أقرب الفكرة، أسأل آخر سؤال، لأنهي تقديم الموضوع. هل كان تكوين الصناديق الخيرية – وبعد ذلك انتشارها الفطري في بلد نفطي محدود المساحة والتعداد السكاني- أمراً طبيعياً أم كان أمراً إضطرارايا، لنمو الحس الديني والمسئولية المجتمعية لدى البحرينيين؟
والجواب أن بروز الصناديق والمؤسسات الخيرية جاء نتيجة تخلي السلطة لواجبها في توزيع الثروة- وبالعدالة فيها- ودورها في إستقصاد- أي توجه واستهداف- حرمان وإدقاع (التفقير القسري) الشريحية الكبيرة من أبناء الشعب بقصد إذلالهم وإضعافهم وحرمانهم من كل عناصر القوة والعيش بكرامة.
لقد عمل الأخوة على إيجاد الصناديق الخيرية التي أخلت المسئولية بشكل مباشر من على كاهل السلطة في البحرين، تلك الدولة البترولية، وصار أصحاب الأيادي البيضاء- جزاهم الله ألف خير وأثقل من ميزان حسناتهم، يخصصون من دخلهم الشهر- قربة لله- ما يتم توجيهه لسد رمق الفقراء والمساكين والمعدمين. إستنفر بروز الصناديق الخيرية طاقات العاملين، الذي صقعتهم الأرقام المذهلة عن حالة الفاقة والعدم، لطرق ابواب اصحاب البيوت- التي عرفت بعيشها المعقول- للمشاركة الشهرية لدعم مشاريع الصناديق.
إنها مفخرة للبحرين، وما أروعه من تضامن وتكامل إجتماعي قل نظيره على مستوى المنطقة. ولكن كيف يحدث ذلك في البحرين- الدولة النفطية. الجدير بالذكر أن ريع النفط لأول ثلاث أشهر مضت- فقط- 858 مليون دولار (أكثر من 324 مليون دينار). برميل النفط تجاوز لحد هذه اللحظة 70 دولار ، وهو مستوى لم يصل له في التاريخ. ريع حلبة السباق للفورميلا واحد- لهذا العام 120 مليون دينار فقط، وهكذا المشاريع المليونية التي تدخل على البحرين، ولكنها تذهب لمصلحة وجيوب خاصة بينما يعيش أكثر من نصف الشعب تحت خط الفقر والحرمان.
في بلد النفط والغاز- وسكان لا يتجاوز عددهم النصف مليون، هناك أكثر من 70 صندوق ومؤسسة خيرية ترعى أكثر من 30 ألف أسرة بحرينية.
تصوروا، هذا نتيجة تكريس واقع القبول بتخلي السلطة عن مسئولياتها. وبدلا من الضغط عليها لتحمل مسئولياتها، نسعى للضغط على الشعب المغلوب على أمره المحدود الدخل، لتكوين مشاريع يعتمد فيها على نفسه، ويساعد السلطة على التهرب من واجبها، كدولة راعية.
ومن هنا ندخل للجانب الثاني من الموضوع. فقد كنا نتحدث عن الإستهداف والإستضعاف، فجاء الكلام عن توجيه بعض أوجه الخمس والزكاة لإنشاء أماكن للرعاية الإجتماعية، ودور للعجزة وأصحاب الحاجات الخاصة. وإبتداءاً، كان الحديث ذي شجون، وعتب لغياب عقلية تخطيط وإدارة استراتيجية تعمل على تسخير تلك الأموال- الحقوق الشرعية- لبناء مشاريع لفئة كبيرة وعزيزة من المجتمع. ولوهلة، ذهبت عميقاً في أصل الفكرة، وكدت اميل لها. نعم، لابد من الإستفادة القصوى من الحقوق التي تمثل دخلاً ليس بالقليل، وبالإمكان، عبر بعض المشاريع، العمل على سد كثير من الحاجات وخلق مصادر دخل وعمل لأعداد ليست بالقليلة، ناهيك عن البعد الإنساني في الموضوع. ويمكننا أن نسهب في هذا الجانب.
ولكن، وبعد التمعن. والحديث هنا عن دور الرعاية الإجتماعية، هل سنكرر ما عملناه في الصناديق الخيرية، وأنا هنا لا أستهين بالصناديق، ولقد قدمت ما حدث بالنسبة لها. هل سنعمل على ملء فراغ، أحدثته السلطة بسوء نيتها؟ وأسمحو لي أن أعبر عما في داخلي- وإن كان فيه قسوة، ولكني لا أجد عذراً للسلطة- مالكة ومديرة وموجهة بذل الثروة. وهل سنقبل أن "نطرّ" من بعض الأموال لتكوين مشاريع هي من صلب مسئوليات السلطة، ما دامت ارتضت ان تسود وأن تكون في ذلك الموقع؟
ما هي المشكلة؟ وما الداعي لهذا الحديث، الذي قد يعتبره البعض، تطرفاً وتشدداً ومزايدة.
بعد القناعة بأن هذه الدولة الريعية، والسلطة المتسلطة، يجب عليها أن تتحمل مسئوليتها التاريخية، وأن ترعى شباب و"شياب" هذا الوطن (من الجنسين طبعا). عملت بحث بسيط، خصوصاً مع بروز الإعلانات هنا وهناك لدعم مشاريع "خيرية" لبر الوالدين وتكوين دور رعاية لأبناء العامة من الطائفة السنية الكريمة. وعذراً للأحبة أبناء العامة، فهذا ليس حسداً، فإني أغبطكم لوجود من يهتم ويعتني بكم، فهنيئاً لكم. أنه حقكم كونكم جزءاً كريماً من هذا الشعب.
أقول، عملت بحثاً بسيطاً في أرشيف الصحف، وفي الموقع الإلكتروني، لوزارة التنمية الإجتماعية (كانت جزءاً لوزارة العمل والشئون الإجتماعية سابقاً) عن دور الرعاية والتأهيل الإجتماعي. فماذا ياترى وجدت؟
دار بنك البحرين الوطني للمسنين ومركز المحرق الرعاية الاجتماعية[1]، دار بنك البحرين الوطني للمسنين (مدينة عيسى)[2]، الوحدة المتنقلة للمسنين[3]،. هناك أيضاً، مشروع "الدار الحديثة" بالمحرق[4]، دار المحرق لرعاية الوالدين[5]، دار المنار لرعاية الوالدين[6]. والأسئلة التي تطرح نفسها بقوة:
كم عدد المراكز المخصصة لرعاية المسنين، والمعاقين، وأصحاب العاهات المستديمة، وذوي العناية الخاصة في القرى، وبالتحديد في المنطقة الشمالية، المنطقة الغربية، سترة وما جاورها؟ الجواب صفر.
لماذا يوجد هناك أكثر من أربع دور ومراكز في المحرق- تتكفل بشيابهم وترعى محتاجيهم، ولا يوجد أي مركز يخدم المناطق التي أشرت إليها؟
أذكر جيداً فيلم "غربة في وطن" الذي عرض في ندوة الفقر الشهيرة التي اعتقل على إثرها الخواجة. ويذكر الفيلم معاناة الحاج عبدالله خلف (78 سنة) من سكنة قرية كرانة الذي لازال يعمل في الفلاحة- وهو بذلك السن المتقدم- ليلقم أبناءه رغيف العيش- بدلاً من ان ترعاه الدولة وترعى عائلته الفقيرة.
كما لا أنسى الشاب حسن يوسف كاظم، من نفس المنطقة، المعاق وبالكاد يستطيع الحديث وهو على الكرسي المتحرك، في نفس الفيلم، شارحاً وضعه واحتياجاته. لا أنساه وهو يتحدث بصعوبة (يتعلثم)- مضطراً وبكل ألم- عن معاناته في ذلك المنزل المهترئ عليه وعلى أهله الكرام، وهو الذي يحتاج لمعاناة خاصة وبشكل لصيق. أهله- المدقعون الفقراء لا يستطيعون تحمل احتياجاته الخاصة- ولم يقصروا، هم وأصحاب الخير. ولكن كيف يسمح لمعاناة هذا الإنسان البريئ –وأهله- بالإستمرار كل هذه السنين دون ان تتحمل السلطة مسئولية مواطنيها- قبل أن ينتقل للرفيق الأعلى بعد عرض ذلك الفيلم بمدة وجيزة؟ الأعمار بيد الله عز وجل، ولكن كيف يحدث ذلك والبحرين ليست دولة فقيرة، وفيها من الخير ما يتلذذ به نخبة من المطبلين للسلطة بينما يموت لا يعتبروا مواطنين، وليسوا "بشراً" لهم حقوق أبناء هذا الوطن.
لماذا لا تصرف الدولة، أو المؤسسات التي توجهها- كالبنوك والمؤسسات ذات الأرباح المليونية، لبناء مراكز رعاية اجتماعية في القرى في المناطق ذات الكثافة السكانية من البحرينيين؟ هل لأنه لاتوجد مصادر دخل أو ميزانية؟ هل لأنه لا توجد قدرة على التخطيط والتوزيع لمصادر الثروة وريع النفط والأراضي؟ بل، هل لأنه لايوجد كبار سن يحتاجون رعاية، أو ذوي إحتياجات خاصة أو معاقين في تلك المناطق- المنكوبة المحرومة، لسبب يعلمه الجميع؟ هل وهل وهل، فلا أستطيع التوقف عن ذكر الخيارات المختلفة من الأسئلة؟
كل تلك الأسئلة يمكن أن تلتف السلطة للإجابة عليها، ولا يمكن ان يغير قرار المنح أو المنع أن يسلم كل أبناء تلك المناطق أمرهم، ويبصموا على مشاريع السلطة المفرغة!
السبب في ذلك الحرمان والمنع هو النظرة الى أن أولئك القاطينين من البشر- هم أبناء الملحة أو أبناء العبدة. فليس لهم – ليس ما يتنعم به الآخرون- بل، ليس لهم ما يبقيهم أحياء، ويقيهم الألم والمعاناة. فهم من أم ملحاء، عبدة، نتاج غزو ورق. فليس لهم إلا أدوات الفناء: الفقر والمرض، والمعاناة، والعوز، والحاجة، وجوع، والبرد والحر.
على فكرة، فإن مشاريع مراكز تأهيل إجتماعي في المناطق المحرومة يمكن ان يوفر فرص عمل جيدة للبحرينيين- غير المستوردين طبعا، ويساعد في إيجاد برامج توظيف حقيقية وتساعد في حلحلة البطالة المتجذرة في مجتمع المحرومين من حق العيش الكريم.
إن مشاريع الخدمة الإجتماعية، دار بر الوالدين، دار رعاية أصحاب الحاجة الخاصة والمعاقين هي في المدن، والمناطق الخاصة، أما في القرى التي ترعى وتحتضن أبناء الملحة، فلا وألف لا.
ليس الغرض من ذكر هذا الموضوع هو توفير فكرة لأبي المكارم- صاحب الأيام التي لن نعشها- لأن يتفضل بالإيعاز لإنشاء مراكز تأهيل في المناطق المحرومة، ولا لإبنه على غرار مشروع المدينة الشمالية ترويجاً لزيادة المشاركة في 2002م والذي تم تحويله لمشروع شخصي يتجاوز ريعه أكثر من 11 مليار دينار – على أقل التقادير- (مليار دينار= 1000000000 دينار) ولا لصاحبة الجلالة الأم – بعد أن تزور القرى المحرومة وتستغفل النساء الملوعات للتصويت والمشاركة في الإنتخابات الصورية القادمة.
إن الغرض هو المساعدة في تعديل البوصلة والإصرار والمطالبة بما هو حق لهذا الشعب- دون تمييز أو أي نوع من انواع الإبتزاز. فقد آن الآوان ان نطالب بالحقوق بكل صراحة ودون مواربة. ويجب اتخاذ موقف واضح من عدم الرضا لما يجري ويخطط ويفعّل على الأرض، و لا أقصد هنا الخطاب السياسي البعيد عن االتوجه الحقيقي للمطالبة بما هو حق للناس. بل خطاب مع موقف من أصحاب القرار في البلد لأن تصحح الأمور قبل أي مبادرة أحادية دون مقابل- وما أكثرها للأسف. لابد أن نعيد العناوين ونسمي الأمور بأسماءها ونحكم العلاقة عبر ميثاق واضح ودستور يضمن عدم انتهاك الحقوق، والكل يعلم ان ما يسمى دستور 2002م أو مفرزاته، لا تصون الحقوق، بل يتم باسمها كل الإنتهاكات، ولست في مجال عرضها الآن.
واعتقد يجب توجيه خطاب موحد وواضح مستند على موقف عملي وهو عدم تكريس الواقع المأساوي الذي نعيشه والمشاركة في مشاريع مفرغة وصورية، يستفيد منها النظام وحده. وأساس هذه المطالبة تغيير عملي وعلى أرض الواقع هذه النظرة الدونية والحصار والمضايقة في الرزق والعبادة والحياة الكريمة. ولا يمكن تصديق أن مشاركة البعض في مجالس صورية مقيدة- يملك مفاتيحها أصحاب القرار في العائلة الحاكمة- سوف يغير من هذه النظرة.
فهل بدأنا نتعامل مع السلطة على أساس هذه النظرة، وأن لأبناء الملحة ما يرتضيه الشيخ، وعلينا أن نكمل حياتنا صاغرين؟
[1] توفر دار بنك البحرين الوطني للمسنين ومركز المحرق للرعاية الاجتماعية أوجه الرعاية الاجتماعية والصحية والنفسية والمعيشية والخدمات الترفيهية للمسنين من الجنسين الذين لا عائل لهم وكذلك توفير الرعاية والتأهيل والعلاج للمسنين في مكان اقامتهم http://www.bah-molsa.com/arabic/index.asp
[2] http://www.bah-molsa.com/arabic/index.asp
[3] الوحدة المتنقلة للمسنين- تتكون الوحدة من فريق عمل متخصص مكون من باحثة اجتماعية وممرضة ومساعدي تأهيل للمسنين ومساعدات تأهيل للمسنات ، وينطلق عمل الوحدة من مراكز ودور المسنين التابعة لادارة الرعاية والتأهيل الاجتماعي حيث يقوم الفريق بزيارات منزلية للمسنين لتقديم الخدمات اللازمة لهم من نظافة شخصية وفحوص طبية وعلاج طبيعي وارشاد أسري وترتيب مواعيد للمراجعة الطبية وغيرها بمعدل ثلاث زيارات في الأسبوع لكل أسرة ، ويغطي فريق العمل في المتوسط ما يقارب (20) حالة أسبوعيا ويوجد حالياً خمس وحدات متنقلة الأولى تخدم منطقة المحرق والقرى المحيطة ويتم تمويلها من قبل مركز المحرق للرعاية الاجتماعية – موقع وزارة العمل والشئون الإجتماعية
[4] تقدم به أهالي المحرق للمحافظة ليكون دارا على مستوى عال من الخدمات التي يقدمها لكبار السن من الموظفين المتقاعدين الذين لديهم من القدرات والإمكانيات ما يؤهلهم لممارسة مهام مختلفة من خلال الدار والاستفادة في نفس الوقت من خبراتهم في مجالات متعددة على أن تتوفر في الدار كل وسائل التكنولوجيا والخدمات العصرية التي اعتاد الموظفون المتقاعدون من مهندسين وأطباء وغيرهم على التعامل معها من خلال وظائفهم من أجل الاستمرارية في العطاء وتقديم الفائدة للوطن.
[5] «دار المحرق لرعاية الوالدين« مشروع بدعم من بنك البحرين الإسلامي وباشراف جمعية الكلمة الطيبة بالمحرق
[6] دار المنار للبنك الأهلي لرعاية الوالدين: من كبار السن وتوفير الرعاية الصحية والاجتماعية بل والمعيشية لهم واستثمار أوقات فراغهم واتاحة الفرصة لهم لممارسة أي عمل يتفق مع ميولهم واتجاههم.