Wednesday, December 12, 2007

شتاء بحراني غاضب بعد سبعة اعوام جرداء

شتاء بحراني غاضب بعد سبعة اعوام جرداء
د. سعيد الشهابي
منذ اكثر من ربع قرن أصبح شهر كانون الاول (ديسمبر) في التقويم البحراني موسما للتوتر السياسي، لكنه ازداد حدة منذ العام 1994. ولم يشذ العام الحالي عن ذلك المنوال. بدأ الامر في كانون الاول (ديسمبر) 1981عندما أعلنت حكومة البحرين عن اكتشاف محاولة لقلب نظام الحكم اعتقل علي اثرها عشرات المواطنين، وزج بـ 73 منهم في السجن لمدد وصل بعضها الي قرابة العشرين عاما.وفي كانون الاول (ديسمبر) 1983 أعلنت الحكومة عن اكتشاف تنظيم سري غير مشروع يهدف لاسقاط نظام الحكم ومرة أخري اعتقل العشرات وزج بالكثيرين منهم في السجن لمدد وصلت الي عشرة اعوام. من هنا ارتبط شهر كانون الاول (ديسمبر) في الوجدان الشعبي بحوادث الاعتقال والتعذيب ومحاولات الانقلاب ضد النظام. ولكن الامر لم يتوقف عند ذلك، بل ازداد تعقيدا منذ العام 1994 لسبب مهم. ففي 17 من كانون الاول (ديسمبر) من ذلك العام سقط اول شابين من ضحايا الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في ذلك الشهر للمطالبة باعادة العمل بدستور البلاد المعلق منذ 1975، واستمرت خمسة اعوام .
المعارضة البحرانية اعلنت ذلك اليوم عيدا للشهداء تحتفل به كل عام. الامر الذي أضفي تعقيدا آخر علي هذا القرار ان السادس عشر من كانون الاول (ديسمبر) هو العيد الوطني الرسمي (وهو اليوم الذي اصبح الحاكم السابق في 1961 أميرا للبلاد). هذا التزامن بين العيد الوطني و عيد الشهداء أصبح عنوانا آخر للتحدي والمناكفة بين الطرفين: الشعب والحكومة. ففي الوقت الذي تسعي فيه الحكومة للاحتفاء بالأول بالزينة والمهرجانات، تتمترس المعارضة في خندق عميق علي خط المواجهة، وتعلن عن مسيرات احتجاجية ضد النظام. هذه الوتيرة لم تتراجع بعد اعلان الحاكم الحالي عن مشروعه الاصلاحي في 2001، بل أصبحت منطلقا للاحتجاجات التي يتم التأصيل والتنظير لها في اطار ما يسمي المقاومة المدنية .
وفي الايام الاخيرة تواصلت فعاليات المعارضة لترويج ذلك من خلال الاعتصامات والندوات والمطبوعات والكتابات الحائطية في مناطق عديدة من البلاد. البحرين اذن علي موعد مع حدثين متضادين تماما، يعكسان البون الشاسع بين الطرفين. وتعم حالة التوتر أجواء البلاد، متمثلة بانتشار المدرعات وشرطة مكافحة الشغب والنشاط المحموم لاجهزة الاستخبارات، مؤكدة عمق الازمة السياسية التي لا نظير لها في بلدان الخليج الاخري. المعارضة البحرانية التي تتبني مشروع المقاومة المدنية تتأرجح بين الاخفاق والنجاح. فمن جهة استطاع نظام الحكم اضعافها بسحب قطاعات منها للمشاركة في مشروعه السياسي، وجذب أشخاص مرموقين في صفوفها الي مناصب رسمية عديدة، كما تمكن من اقناع بعض الجهات الخارجية من دول ومنظمات حقوقية وسياسية بمشروعه السياسي، خصوصا في ضوء الانتخابات لنصف اعضاء مجلس الشوري والمجالس البلدية.
واستطاع ايضا استغلال الاموال النفطية الهائلة في توظيف شركات اجنبية في مجال العلاقات العامة، وتحييد بعض الجهات الحقوقية والاعلامية ازاء الاوضاع في البحرين. ولكن هذه المعارضة، برغم ما حدث، استطاعت هي الاخري تحقيق العديد من النجاحات. اولها انها خففت بريق المشروع السياسي في عيون الآخرين، واقنعت العديد من الجهات الخارجية باعادة النظر في الموقف مما يجري في هذه الجزيرة الخليجية. فعندما دعت الحكومة الشهر الماضي عددا من الصحافيين البريطانيين الي البلاد للتحدث مع ولي العهد الذي يتوقع ان يبدأ ممارسة الحكم في ضوء مرض والده (الشيخ حمد)، جاءت تغطياتهم لما يجري في البحرين مختلفا تماما مع توقعات الحكومة. فنشرت ثلاث صحف بريطانية رئيسية (الغارديان والتايمز والاندبندنت) مقالات شككت كثيرا في المشروع السياسي وأثارت التساؤلات حول مدي نجاحه. ولعل أحد الانجازات الكبري للمعارضة نجاحها في اقناع مجلس حقوق الانسان التابع للامم المتحدة بفتح ملف حقوق الانسان في البحرين كواحدة من ثلاث دول بالاضافة الي تونس وغواتيمالا.
ووفقا للمعلومات المتوفرة فان الطرفين: الحكومة والجهات الحقوقية البحرانية، يستعدان لمنازلة كبري امام مجلس حقوق الانسان، وقد رصدت الحكومة ميزانية كبيرة لكسب الجولة. كما شكلت مؤخرا اللجنة الوطنية لحقوق الانسان برئاسة أحد الوزراء المحسوبين علي جمعية الوفاق، علي امل ان تكون المنازلة بين اشخاص محسوبين علي تيار المعارضة الشيعية، وليس بين الشعب والحكومة. وكانت المعارضة قد حققت نجاحا آخر، بفتح ملف الضابط البريطاني ايان هندرسون، المسؤول عن الملف الامني في البحرين حتي العام 2001. ووفقا للمعلومات التي تسربت عن الشرطة البريطانية فقد ذهب فريق من الشرطة الي البحرين في تشرين الاول (اكتوبر) 2006 لاستجواب هندرسون، ولكنه رفض التعاون مع الفريق بدعوي ان المعلومات المطلوبة ترتبط بأمن البحرين وانه ليس مخولا بالاجابة علي تساؤلات الشرطة. وفي الفترة الاخيرة تم التعاطي مع محاسبة هندرسون من خلال وزارة الخارجية البريطانية التي يفترض ان تنظم الاستجواب من خلال وزارة خارجية البحرين.
وهكذا يبدو المشهد البحراني مختلفا عن دول الخليج الاخري التي لا تشهد استقطابات حادة بين الانظمة والشعوب كما هو الحال في البحرين. فانظمة الخليج الاخري استطاعت استيعاب اوضاعها من خلال عدد من الامور: اولها ان طرفي المعادلة السياسية (الشعب والحكومة) منسجمان في الخلفيات الفكرية والثقافية والدينية، وثانيها: ان افراد العائلات الحاكمة متداخلون مع شعوبهم اجتماعيا ولا يعيشون بانفصال عنهم، بينما يعيش ابناء العائلة الحاكمة في البحرين في مناطق خاصة بهم، منفصلين عن بقية المواطنين. بل ان غالبية شعب البحرين لا يحق لها تملك اراض في منطقة الرفاع التي يقطنها ابناء العائلة الحاكمة. ثالثا: ان لدي حكومات دول مجلس التعاون سياسات خاصة بتكثيف العمالة الوطنية وتأهيلها لاستلام المناصب العليا، بينما تقوم سياسات التوظيف لدي حكومة البحرين علي اساس زيادة العمالة الاجنبية، واقناع حكومات دول الخليج الاخري بتوظيف البحرانيين، وذلك بهدف ابعادهم عن وطنهم وتوطين الاجانب مكانهم. هذه القضية تتناغم مع سياسة التوطين التي تمارسها حكومة البحرين منذ بعض سنوات، اذ تم تجنيس عشرات الآلاف من غير البحرانيين، وكثير من هؤلاء لم يطأوا ارض البحرين قط. خامسا ان الحكومات تغدق علي شعوبها من اموال النفط الهائلة. فمثلا اصدرت دولة الامارات الشهر الماضي قرارا بزيادة رواتب موظفي الدولة بنسبة 70 بالمائة، بينما لم تتجاوز الزيادة في رواتب البحرانيين الـ 10 بالمائة. ووفقا للارقام المتوفرة ، فان مدخولات النفط السنوية تتجاوز الـ 7 مليارات، لا يصل منها الي خزينة الدولة سوي أقل من نصفها. يضاف الي ذلك قضايا أخري تزيد من توتر الاوضاع في البلاد.
من هذه الامور العلاقات التي تزداد متانة مع اسرائيل وهو امر يثير ريبة المواطنين. ففي تشرين الاول (اكتوبر) الماضي اعلن وزير الخارجية البحريني الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة عن لقاء مع نظيرته الإسرائيلية تسيبي ليفني علي هامش انعقاد الدورة الثانية والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، متحديا المشاعر الشعبية الرافضة لاي تواصل مع كيان الاحتلال.وزاد من الغضب الشعبي التصريحات التي اطلقها رئيس الوزراء، الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، في مقابلة مع صحيفة السياسة الكويتية حول دوره في الثمانينات والتسعينات، وتشبثه بقانون أمن الدولة وتبرير اساليب القمع التي مورست للمتظاهرين في التسعينات، والتعذيب بحق السجناء السياسيين آنذاك. وجاءت ردود الفعل المحلية مطالبة بتنحي رئيس الوزراء عن منصبه الذي بقي فيه منذ 1971، ومحاكمة مرتكبي جرائم التعذيب، والتوقف عن كافة اشكال التواصل مع اسرائيل دبلوماسيا وأمنيا وفنيا.
وفي الوقت نفسه، لم تتوقف الاعتصامات من قبل العاطلين الباحثين عن وظائف، او عديمي السكن الباحثين عن منزل. تكثف هذه المظاهر في الاسابيع الاخيرة يؤكد فشل المؤسسات الرسمية بما فيها مجلس الشوري بشقيه المعين والمنتخب، في التصدي لقضايا المواطنين بفاعلية واصرار. وتتواصل معاناة المواطنين عندما تطرح مسألة الاراضي، اذ يتضح بشكل فاقع غياب التوازن في التوزيع، في الوقت الذي تتوسع فيه المساحات التي تشيد عليها القصور التابعة لرموز الحكم، بشكل يفتقد التوازن واللباقة الاخلاقية.
ويعاني المواطنون ايضا من ظاهرة هبوط الرواتب في مقابل التصاعد المضطرد لرواتب الوزراء واعضاء مجلس الشوري التي بلغت مستويات عالية جدا. هذه الظواهر تفرض نفسها علي المواطنين الباحثين عن الاستقرار السياسي والمعيشي، وتدفع بعضهم، خصوصا الشباب منهم، للمزيد من العمل المعارض والتصدي لما يعتبرونه منافيا للمصلحة الوطنية العامة. المشهد البحراني، عشية العيد الوطني او عيد الشهداء معقد ومتداخل بشكل قلما يوجد له نظير في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. فهو خاضع لاعتبارات سياسية وثقافية، تجعل من البحرين حالة خاصة في هذه المنطقة الحساسة من العالم العربي.
وهنا تتداخل الابعاد الامريكية والبريطانية والايرانية والسعودية في موزاييك سياسي مرتبط بالمصالح الاستراتيجية لكل طرف. هذه الحقيقة وفرت للبحرين سمات خاصة، ساهمت في اثراء تجربة ابنائها السياسية والمعيشية، ولكنها جعلت اوضاعها اكثر تعقيدا واضطرابا. واذا كان مرض الحاكم، الشيخ حمد، قد ألقي بظلاله علي الوضع البحراني العام، فان الحكم قد تحرك مجددا لتقوية موقع ولي العهد ودعم موقع رئيس الوزراء الذي ما يزال رافضا أي اصلاح. المعارضة ما تزال تبحث عن خطي مناسبة لاجبار الحكم علي ادخال اصلاحات سياسية حقيقية. ويقول المعارضون ان التجربة البرلمانية فشلت تماما، اذ لم يستطع الاعضاء المنتخبون ان يقدموا سؤالا حقيقيا واحدا لأي من الوزراء المتهمين اما بضعف الأداء او التواء الاساليب او ما يسمونه التآمر ضد الشعب. هذا التآمر جاء بشكل مفصل في تقرير اصدره العام الماضي الدكتور صلاح البندر، البريطاني من اصل سوداني، والمستشار السابق لوزارة شؤون مجلس الوزراء.
ويتمثل هذا التآمر بتشكيل تنظيم سري يهدف لاحداث تغيير جوهري، سكاني وثقافي واعلامي، يكرس سلطة العائلة الحاكمة ويضعف شوكة المعارضين. هذا التنظيم ممول من قصر الحاكم، ولا يخضع لاية مساءلة من أية جهة: اعلامية او تشريعية او تنفيذية او قضائية. وهناك منع شامل للاعلام المحلي من التعاطي مع تقرير البندر وما جاء فيه من وقائع وادعاءات، وهذا المنع ساري المفعول حتي الآن، الامر الذي دفع العديد من المنظمات الحقوقية الدولية المعنية بحق التعبير للتنديد بقرار المنع، والمطالبة برفع القيود عن التعبير الحر. لقد كان بامكان البحرين ان تتبوأ مركز الصدارة بين دول الخليج في الممارسة البرلمانية، ابتداء بكتابة دستور تعاقدي بين العائلة الحاكمة وشعب البحرين، وانتهاء بانتخابات برلمانية حرة ونزيهة وقائمة علي اسس من المساواة التي تعتمد مبدأ لكل مواطن صوت .
كان بامكان الحكم مشاركة المواطنين في المدخولات النفطية الهائلة والعمل لانهاء ازمة البطالة التي تتجاوز الـ 20 بالمائة وتقليل العمالة الاجنبية. كان بامكانه توزيع الاراضي بشكل أعدل، خصوصا الاراضي المستصلحة من البحر، والتخلي عن الجزر الكبري التي يتسع بعضها لحوالي 100 الف شخص. لم يحدث أي من ذلك، حسب ما تقوله المعارضة، بل اصبحت الهوة بين الحكم والشعب تزداد اتساعا وتهدد بالمزيد من التوتر الامني والسياسي. وما يجري في هذه الجزيرة الصغيرة اليوم عنوان للأزمة الاوسع التي تعاني منها بلداننا العربية، ومن ابرز مظاهرها الاستبداد والديكتاتورية والفساد المالي والاداري، ورهن البلدان للاجانب. صحيح انها قصة تتكرر فصولها في اكثر من قطر عربي، مع تغير الوجوه والأدوار، ولكن البحرين تبدو أكثرها اضطرابا وتعقيدا، وأقلها استقرارا وأمنا.
http://www.alquds.co.uk/scripts/print.asp?fname=\today\11e25.htm&storytitle=شتاء بحراني غاضب بعد سبعة اعوام جرداء