يوميات من انتفاضة مارس 1956 المجيدة
// البحرين
المنامة - عبدالله مطيويع
في العام 1964 اتحذت الإدارة العليا لشركة نفط البحرين بابكو قراراً يقضي بتسريح 400 عامل بحريني، ووضعت جدولاً لتسريح العمال البحرينيين على مراحل عدة، وارسلت رسائل للدفعة الأولى من العمال الذين سيتم الاستغناء عن خدماتهم. وهو ما كان يعني قطع أرزاق 400 رب أسرة بحرينية تعيل 2000 فرد إذ لم يكن يومها ثمة ضمان اجتماعي.وبدأ الغليان، الشعب يغلي في المرجل، وأول من تسلم رأس الخيط كان الشيخ أحمد إبراهيم المطوع ذاك الازهري الضرير الذي يستعين بالعكاز، فهذا الشيخ عوضه الله سبحانه وتعالى عن بصره ببصيرة نادرة. بدأ الشيخ أحمد إبراهيم المطوع من خلال خطاباته التحريضية ضد شركة بابكو، كان الشيخ يقيم في الحورة ويئم المصلين في صلاة الجمعة بجامع الحورة. وتضمنت خطب الجمعة انتقادات لاذعة لما آلت له البلاد. كانت خطابات الشيخ ناطقة بضمير الناس. في الدعوة والحث على مقاومة الظلم وحب الوطن، والتضحية من أجل هذا الحق المشروع، وكان الشيخ يكرر الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي تحث على مقاومة الظلم «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»، وكان يشدد على «بيده» فيكررها ثلاث مرات بصوت مرتفع.وفي ديسمبر/ كانون الأول 1964 الذي صادف شهر رمضان الكريم، انتقل الشيخ المطوع إلى السكن في المحرق، قبالة مسجد بن مجرن في (فريج «الشيوخ») ليئم الناس في صلاة الجماعة والتراويح، وبعد الصلاة كان يبدأ في إلقاء خطبه النارية. كان المسجد يتملئ عن بكرة أبيه بالمصلين من جميع أنحاء البحرين من الحد، وقلالي، والرفاع، والزلاق، والبديع، والمنامة. وأذكر أنه كان يردد مقولة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب «أطيعوني ما أطعت ألله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم»، في إشارة واضحة إلى رفض الوضع الحالي وقطع أرزاق الناس والظلم والجور والتمييز ضد البحرينيين في شركة بابكو وغيرها. كان الشيخ المطوع خطيباً مفوهاً ومدرسة في الدعاية والتحريض ضد الإنجليز، وكانت خطبه حديث أهل البحرين من أقصاها إلى أقصاها. وكان يحث الناس على التوجه للحاكم وبث شكواهم من دون تردد. كانت نفوس الناس مشحونة وجاهزة لأبعد الحدود، وتنتظر من يطلقها لتعبر عن أوجاعها، في الأسبوع الاول من مارس/ آذار 1965، اتفق عدد من الأصدقاء من شباب المحرق، وهم: أحمد عبدالملك، وأحمد الكواري، وعبدالله الخباز، وأحمد الجودر، وصقر البنعلي وفيصل جمعة. اتفقوا أن يطلقوا الشرارة الأولى للاحتجاج على عسف وجور شركة نفط البحرين (بابكو) وحكومة البحرين التي أيدت قرار الفصل ولم تتدخل لإيقاف هذا القرار الجائر، وفي الطابور الصباحي قبل الدخول إلى الصفوف، جمعوا حولهم الطلبة، وهتفوا هتافات ضد الاستعمار البريطاني. وبابكو، وحكومة البحرين, وبدأ الطلبة في الالتفاف حولهم في ساحة المدرسة. كانوا يزدادون بسرعة، وخلال نصف ساعة تقريباً جاءت سيارات الشرطة إلى المدرسة، ويبدو أن إدارة المدرسة استشعرت خطورة ما سيحصل فاتصلت بالشرطة. ودخل الشرطة إلى مدرسة الهداية وبدأوا في ملاحقة الطلبة وحدثتهم بضرورة الدخول إلى الصفوف، وساد الهرج والمرج. السبعة المحرضون على المظاهرة تمكنوا من الفرار من سور المدرسة وفشلت أول محاولة للتظاهر. وقام الجماعة نفسهم بشراء طلاء وملأوا جدران المحرق بالكتابات الرافضة لما كان من سياسات وظلم وجور. القوميون في الصدارةفي تلك المرحلة نشطت الحركات السرية لكل من: حركة القومين العرب - جبهة التحرير الوطني - حزب البعث - الحركة الناصرية - اتحاد الشباب. كان الجو قومياً عروبياً ناصرياً ضد الإنجليز ومن يتعاون معهم. أو يؤيدهم. وكانت خلايا تلك التنطيمات منتشرة. خصوصاً في صفوف الشباب، والطلبة، وبعض العمال وعدد قليل من النساء، وكان شعب البحرين يترقب عاصفة سياسية مطلبية ستهب على البحرين بلا شك بعد كل هذه الإرهاصات.في يوم الخميس 11مارس 1965، كنا طلبة في مدرسة المنامة الثانوية للبنين، وفي الطابور الصباحي انطلق صوت مرتفع يقول: يا اخواننا الطلبة، أخوتكم/ أباؤكم العمال سيسرحون من أعمالهم والإنجليز يحتلون الوطن وشركة بابكو الإستعمارية «راكبة رأسها» فماذا أنتم فاعلون؟، وما هي إلا ثوان بسيطة حتى تعالت الأصوات وخرجت الأعلام والشعارات التي كانت مخبأة في شنط المدرسة أو تحت ثياب الطلبة.ارتبكت إدارة المدرسة وكان يديرها عبدالملك الحمر، وخرج الاستاذ محمد خليفات وأنضم إلى الطلبة يهتف معهم، وتوترت الأجواء كلها، وتعالت أصوات الهتافات داخل المدرسة، وهنا طوقت الشرطة وفرقة الشغب جدران المدرسة من ثلاث جهات، وتمركزوا في الساحة المقابلة للبوابة الرئيسة بالقرب من ملعب كرة القدم. وبدأوا في إطلاق مسيلات الدموع ثم إقتحموا فناء المدرسة وبدأت هراواتهم وهم على الخيل، تعمل فعلها في أجساد الطلبة. كانت صناديق زجاجات «الكولا» الفارغة مكدسة عند مقصف المدرسة. فكان ذاك سلاح الطلبة الأول في هذه المواجهة المفروضة عليهم. في الجولة الأولى قام الشغب بضرب الطلبة وسقط منهم نصر معيوف من قرية الحجر، وعيسى الذوادي من الحد، فسحبوهم إلى جيب وهم ينهالون عليهم ضرباً بالهراوات. استخدم الطلبة الزجاجات الفارغة وأخرجو الشرطة وخيولهم خارج ساحة المدرسة، وأغلقوا البوابة الحديد ثم سحبوا مقصف المدرسة - وهو عبارة عن كبينة من الخشب - وسدو به باب المدرسة من الداخل فغضب الضابط البريطاني ومعه أحد المسئولين من البدو وربما أسمه (شلتاخ) فأمطروا المدرسة الثانوية للبنين بمسيلات الدموع حتى أختنق الطلبة جميعهم وكذلك مبنى التربية والتعليم، وفي هذه الأجواء استشاط مدير المدرسة عبدالملك الحمر غضباً، وتوجه إلى ضابط الشرطة يطلب منه التوقف عن رمي مسيلات الدموع، وفي هذه الأثناء رمى أفراد الشرطة مسيلات الدموع أمام مدير المدرسة الذي كاد يغمى عليه جراء استنشاقه للغازات فأمسكناه أنا والأخ أحمد كمال وركضنا به نحو مبنى المدرسة لكي يستعيد أنفاسه ويبتعد عن مسيلات الدموع، دخل المدير غرفته، وصار يتصل بالإدارة ومدير إدارة التربية والتعليم. وهو يصرخ أوقفوهم أوقفوهم.كنت حينها في الصف الأول ثانوي علمي (عام)، وكان الطلبة من مختلف فئات المجتمع، أحد الطلبة همس في أذني ودعاني للذهاب إلى المختبر، فسألته لماذا المختبر؟ – فقال :أتذكر نترات المغنيسيوم كيف تحترق حين أجرى لنا الاستاذ تجارب به ؟، ودون تردد، ذهبنا إلى المختبر وإذا المفاجأة أمامنا – استاذ العلوم يقف عند باب المختبر ينظر لنا بعينيه وهو يهز سبابته يميناً ويساراً بحركة لا لا لا ليس مختبر المدرسة ليس مختبر المدرسة!، وكنا نحب هذا الأستاذ ونحترمه كثيراً. فتخلينا عن الفكرة وركضنا إلى ساحة المدرسة لنهتف مع المتظاهرين، فيما لا تزال مسيلات الدموع تنهال من خارج سور المدرسة لداخلها والطلاب والاساتذة في حال ليس لها مثيل من الغضب والحنق، وكانت الإصبابات وحالات الاختناق كثيرة.مرت نحو 3 ساعات على هذا الوضع، وإذا بباصات كثيرة تحمل عمال ينزلون منها ويطوقون قوات الشرطة والشغب التي تطوق المدرسة، هربت قوات الشغب إلى سياراتها مغادرة فيما اقترب العمال من البوابة وأزالوا كبينة المقصف وخرجنا في اتجاه مدرسة الحورة الإعدادية، ثم إلى مدرسة البنات وخرج جميع الطلبة والطالبات والعمال واختلط العمال بالطلاب في مسيرة لم تشهدها البحرين إلا أيام مهرجان ومظاهرات 45/1956 بقيادة الاتحاد الوطني.كان حريقاً هائلاً ينتظر البحرين أوقد شرارته العمال وطلاب مدرسة المنامة الثانوية للبنين – صباح يوم الخميس 11 مارس 1965 رداً على تعسف وجور شركة النفط (بابكو)، بشروعها في تسريح الدفعة الأولى من العمال.كانت اخبار دخول فرقة الشغب بخيولها وهراواتهم إلى ساحة المدرسة الثانوية وضربهم للطلبة وجرح عدد من الطلبة قد وصلت إلى جميع الأهالي، وجاء بعضهم إلى المدرسة لكي ينقذوا أبناءهم من محاصرة قوات الشرطة والشغب التي كانت لا ترحم أحداً.الاعتقالات تبدأواعتقل الكثير من الناس بعد إشباعهم ضرباً بالهراوات من على ظهور الخيل، كان ذلك حديث أهل البحرين من أقصاها إلى أقصاها. كان يومها عدد فرق الشغب محدوداً وكان شعب البحرين كل شعب البحرين رجالاً ونساءً ضد تعسف (بابكو) وضد سكوت حكومة البحرين. الجميع أيضاً عبروا عن عدم ارتياحهم واستنكارهم لما قامت به الشرطة من أقتحام للمدرسة الثانوية وضرب الطلبة وإمطار المدرسة على من فيها بسيل من مسيلات الدموع.في ذاك اليوم أصاب الارتباك والهستيريا جهاز الأمن، وراح يلاحق المتظاهرين في عدة مواقع من المنامة – المدارس، الأحياء، منعطفات الشوارع، وأي تجمع.وفي المساء كانت ساحات وشوارع وأحياء العاصمة المنامة مليئة بما خلفته معركة ذاك اليوم من أغلفة مسيلات الدموع والحصى والزجاجات الفارغة ومتاريس الحصى، والدنجل، وأكوام الحجارة.خيم الظلام في ذاك المساء على البلاد، ونذر الغد لا يعلمها أحد، فالحريق قد بدأ وتهامسات شباب البحرين وقواها الوطنية ليلاً كلها تدل على إعداد العدة للغد، ولم يأت الغد بالفعل حتى كان كل شيء جاهزاً بعفوية مطلقة.عند فجر يوم الجمعة تهامس الأباء والأبناء عند صلاة الفجر، وتخابر الأهل والرجال عن صلاة الجمعة 12 مارس 1965 التي ستقام في مسجد الشيخ حمد فتقاطر الناس من كل حدب وصوب. في ذاك اليوم امتلأ جامع الشيخ حمد بالمصلين كما لم يمتلئ من قبل. وخطب خطيب الجمعة خطبته وصلى المصلون، وكان أول من خرج من المصلين شاب في عنفوان شبابه مسحوراً بشخصية الرئيس جمال عبدالناصر وخطاباته وطريقة خطابته، وقف يوسف عبدالملك وهو من المحرق وتحديداً فريق «ستيشن - محطة الباصات القديمة»، وقف على التلة العالية عند باب المسجد وأخرج من جيبه ورقة وألقى خطاباً تحريضياً من الطراز الأول وحث الناس على التظاهر، وهتف (ياحرية هلي هلي/ خلي لستعمار يولي) وأخرجت اليافظات من تحت الثياب وسارت المظاهرات تجوب شوارع المحرق وتطالب بوقف تسريح عمال بابكو، وكانت البداية وجاء أهل البحرين كل أهل البحرين من القرى والمدن إلى المحرق.جرت المصادمات وعجزت الشرطة عن إخماد هذا التحرك فأستعانت الداخلية بطائرة مروحية من الجيش البريطاني وكتب أسفل الطائرة على قماش أبيض الصق في بطن الطائرة «شرطة البحرين!». وقامت هذه الطائرة بعد أن انضمت لها طائرة أخرى بإمطار المتظاهرين من الجو بمسيلات الدموع التي غطى سحابها جميع أحياء وشوارع وبيوت المحرق. واختنق الرجال والنساء والأطفال.هناك الكثير من التفاصيل المهمة جداً ليوميات انتفاضة مارس المجيدة، لكن سيكون مكانها غير هذه المساحة المحدودة، وقد استمرت الانتفاضة لأكثر من شهرين عجزت أجهزة الأمن من إخمادها لتؤكد صدقية أبناء هذا الشعب ووقوفه صفاً واحداً في سبيل تحقيق مطالبه العادلة.
المنامة - عبدالله مطيويع
في العام 1964 اتحذت الإدارة العليا لشركة نفط البحرين بابكو قراراً يقضي بتسريح 400 عامل بحريني، ووضعت جدولاً لتسريح العمال البحرينيين على مراحل عدة، وارسلت رسائل للدفعة الأولى من العمال الذين سيتم الاستغناء عن خدماتهم. وهو ما كان يعني قطع أرزاق 400 رب أسرة بحرينية تعيل 2000 فرد إذ لم يكن يومها ثمة ضمان اجتماعي.وبدأ الغليان، الشعب يغلي في المرجل، وأول من تسلم رأس الخيط كان الشيخ أحمد إبراهيم المطوع ذاك الازهري الضرير الذي يستعين بالعكاز، فهذا الشيخ عوضه الله سبحانه وتعالى عن بصره ببصيرة نادرة. بدأ الشيخ أحمد إبراهيم المطوع من خلال خطاباته التحريضية ضد شركة بابكو، كان الشيخ يقيم في الحورة ويئم المصلين في صلاة الجمعة بجامع الحورة. وتضمنت خطب الجمعة انتقادات لاذعة لما آلت له البلاد. كانت خطابات الشيخ ناطقة بضمير الناس. في الدعوة والحث على مقاومة الظلم وحب الوطن، والتضحية من أجل هذا الحق المشروع، وكان الشيخ يكرر الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي تحث على مقاومة الظلم «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»، وكان يشدد على «بيده» فيكررها ثلاث مرات بصوت مرتفع.وفي ديسمبر/ كانون الأول 1964 الذي صادف شهر رمضان الكريم، انتقل الشيخ المطوع إلى السكن في المحرق، قبالة مسجد بن مجرن في (فريج «الشيوخ») ليئم الناس في صلاة الجماعة والتراويح، وبعد الصلاة كان يبدأ في إلقاء خطبه النارية. كان المسجد يتملئ عن بكرة أبيه بالمصلين من جميع أنحاء البحرين من الحد، وقلالي، والرفاع، والزلاق، والبديع، والمنامة. وأذكر أنه كان يردد مقولة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب «أطيعوني ما أطعت ألله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم»، في إشارة واضحة إلى رفض الوضع الحالي وقطع أرزاق الناس والظلم والجور والتمييز ضد البحرينيين في شركة بابكو وغيرها. كان الشيخ المطوع خطيباً مفوهاً ومدرسة في الدعاية والتحريض ضد الإنجليز، وكانت خطبه حديث أهل البحرين من أقصاها إلى أقصاها. وكان يحث الناس على التوجه للحاكم وبث شكواهم من دون تردد. كانت نفوس الناس مشحونة وجاهزة لأبعد الحدود، وتنتظر من يطلقها لتعبر عن أوجاعها، في الأسبوع الاول من مارس/ آذار 1965، اتفق عدد من الأصدقاء من شباب المحرق، وهم: أحمد عبدالملك، وأحمد الكواري، وعبدالله الخباز، وأحمد الجودر، وصقر البنعلي وفيصل جمعة. اتفقوا أن يطلقوا الشرارة الأولى للاحتجاج على عسف وجور شركة نفط البحرين (بابكو) وحكومة البحرين التي أيدت قرار الفصل ولم تتدخل لإيقاف هذا القرار الجائر، وفي الطابور الصباحي قبل الدخول إلى الصفوف، جمعوا حولهم الطلبة، وهتفوا هتافات ضد الاستعمار البريطاني. وبابكو، وحكومة البحرين, وبدأ الطلبة في الالتفاف حولهم في ساحة المدرسة. كانوا يزدادون بسرعة، وخلال نصف ساعة تقريباً جاءت سيارات الشرطة إلى المدرسة، ويبدو أن إدارة المدرسة استشعرت خطورة ما سيحصل فاتصلت بالشرطة. ودخل الشرطة إلى مدرسة الهداية وبدأوا في ملاحقة الطلبة وحدثتهم بضرورة الدخول إلى الصفوف، وساد الهرج والمرج. السبعة المحرضون على المظاهرة تمكنوا من الفرار من سور المدرسة وفشلت أول محاولة للتظاهر. وقام الجماعة نفسهم بشراء طلاء وملأوا جدران المحرق بالكتابات الرافضة لما كان من سياسات وظلم وجور. القوميون في الصدارةفي تلك المرحلة نشطت الحركات السرية لكل من: حركة القومين العرب - جبهة التحرير الوطني - حزب البعث - الحركة الناصرية - اتحاد الشباب. كان الجو قومياً عروبياً ناصرياً ضد الإنجليز ومن يتعاون معهم. أو يؤيدهم. وكانت خلايا تلك التنطيمات منتشرة. خصوصاً في صفوف الشباب، والطلبة، وبعض العمال وعدد قليل من النساء، وكان شعب البحرين يترقب عاصفة سياسية مطلبية ستهب على البحرين بلا شك بعد كل هذه الإرهاصات.في يوم الخميس 11مارس 1965، كنا طلبة في مدرسة المنامة الثانوية للبنين، وفي الطابور الصباحي انطلق صوت مرتفع يقول: يا اخواننا الطلبة، أخوتكم/ أباؤكم العمال سيسرحون من أعمالهم والإنجليز يحتلون الوطن وشركة بابكو الإستعمارية «راكبة رأسها» فماذا أنتم فاعلون؟، وما هي إلا ثوان بسيطة حتى تعالت الأصوات وخرجت الأعلام والشعارات التي كانت مخبأة في شنط المدرسة أو تحت ثياب الطلبة.ارتبكت إدارة المدرسة وكان يديرها عبدالملك الحمر، وخرج الاستاذ محمد خليفات وأنضم إلى الطلبة يهتف معهم، وتوترت الأجواء كلها، وتعالت أصوات الهتافات داخل المدرسة، وهنا طوقت الشرطة وفرقة الشغب جدران المدرسة من ثلاث جهات، وتمركزوا في الساحة المقابلة للبوابة الرئيسة بالقرب من ملعب كرة القدم. وبدأوا في إطلاق مسيلات الدموع ثم إقتحموا فناء المدرسة وبدأت هراواتهم وهم على الخيل، تعمل فعلها في أجساد الطلبة. كانت صناديق زجاجات «الكولا» الفارغة مكدسة عند مقصف المدرسة. فكان ذاك سلاح الطلبة الأول في هذه المواجهة المفروضة عليهم. في الجولة الأولى قام الشغب بضرب الطلبة وسقط منهم نصر معيوف من قرية الحجر، وعيسى الذوادي من الحد، فسحبوهم إلى جيب وهم ينهالون عليهم ضرباً بالهراوات. استخدم الطلبة الزجاجات الفارغة وأخرجو الشرطة وخيولهم خارج ساحة المدرسة، وأغلقوا البوابة الحديد ثم سحبوا مقصف المدرسة - وهو عبارة عن كبينة من الخشب - وسدو به باب المدرسة من الداخل فغضب الضابط البريطاني ومعه أحد المسئولين من البدو وربما أسمه (شلتاخ) فأمطروا المدرسة الثانوية للبنين بمسيلات الدموع حتى أختنق الطلبة جميعهم وكذلك مبنى التربية والتعليم، وفي هذه الأجواء استشاط مدير المدرسة عبدالملك الحمر غضباً، وتوجه إلى ضابط الشرطة يطلب منه التوقف عن رمي مسيلات الدموع، وفي هذه الأثناء رمى أفراد الشرطة مسيلات الدموع أمام مدير المدرسة الذي كاد يغمى عليه جراء استنشاقه للغازات فأمسكناه أنا والأخ أحمد كمال وركضنا به نحو مبنى المدرسة لكي يستعيد أنفاسه ويبتعد عن مسيلات الدموع، دخل المدير غرفته، وصار يتصل بالإدارة ومدير إدارة التربية والتعليم. وهو يصرخ أوقفوهم أوقفوهم.كنت حينها في الصف الأول ثانوي علمي (عام)، وكان الطلبة من مختلف فئات المجتمع، أحد الطلبة همس في أذني ودعاني للذهاب إلى المختبر، فسألته لماذا المختبر؟ – فقال :أتذكر نترات المغنيسيوم كيف تحترق حين أجرى لنا الاستاذ تجارب به ؟، ودون تردد، ذهبنا إلى المختبر وإذا المفاجأة أمامنا – استاذ العلوم يقف عند باب المختبر ينظر لنا بعينيه وهو يهز سبابته يميناً ويساراً بحركة لا لا لا ليس مختبر المدرسة ليس مختبر المدرسة!، وكنا نحب هذا الأستاذ ونحترمه كثيراً. فتخلينا عن الفكرة وركضنا إلى ساحة المدرسة لنهتف مع المتظاهرين، فيما لا تزال مسيلات الدموع تنهال من خارج سور المدرسة لداخلها والطلاب والاساتذة في حال ليس لها مثيل من الغضب والحنق، وكانت الإصبابات وحالات الاختناق كثيرة.مرت نحو 3 ساعات على هذا الوضع، وإذا بباصات كثيرة تحمل عمال ينزلون منها ويطوقون قوات الشرطة والشغب التي تطوق المدرسة، هربت قوات الشغب إلى سياراتها مغادرة فيما اقترب العمال من البوابة وأزالوا كبينة المقصف وخرجنا في اتجاه مدرسة الحورة الإعدادية، ثم إلى مدرسة البنات وخرج جميع الطلبة والطالبات والعمال واختلط العمال بالطلاب في مسيرة لم تشهدها البحرين إلا أيام مهرجان ومظاهرات 45/1956 بقيادة الاتحاد الوطني.كان حريقاً هائلاً ينتظر البحرين أوقد شرارته العمال وطلاب مدرسة المنامة الثانوية للبنين – صباح يوم الخميس 11 مارس 1965 رداً على تعسف وجور شركة النفط (بابكو)، بشروعها في تسريح الدفعة الأولى من العمال.كانت اخبار دخول فرقة الشغب بخيولها وهراواتهم إلى ساحة المدرسة الثانوية وضربهم للطلبة وجرح عدد من الطلبة قد وصلت إلى جميع الأهالي، وجاء بعضهم إلى المدرسة لكي ينقذوا أبناءهم من محاصرة قوات الشرطة والشغب التي كانت لا ترحم أحداً.الاعتقالات تبدأواعتقل الكثير من الناس بعد إشباعهم ضرباً بالهراوات من على ظهور الخيل، كان ذلك حديث أهل البحرين من أقصاها إلى أقصاها. كان يومها عدد فرق الشغب محدوداً وكان شعب البحرين كل شعب البحرين رجالاً ونساءً ضد تعسف (بابكو) وضد سكوت حكومة البحرين. الجميع أيضاً عبروا عن عدم ارتياحهم واستنكارهم لما قامت به الشرطة من أقتحام للمدرسة الثانوية وضرب الطلبة وإمطار المدرسة على من فيها بسيل من مسيلات الدموع.في ذاك اليوم أصاب الارتباك والهستيريا جهاز الأمن، وراح يلاحق المتظاهرين في عدة مواقع من المنامة – المدارس، الأحياء، منعطفات الشوارع، وأي تجمع.وفي المساء كانت ساحات وشوارع وأحياء العاصمة المنامة مليئة بما خلفته معركة ذاك اليوم من أغلفة مسيلات الدموع والحصى والزجاجات الفارغة ومتاريس الحصى، والدنجل، وأكوام الحجارة.خيم الظلام في ذاك المساء على البلاد، ونذر الغد لا يعلمها أحد، فالحريق قد بدأ وتهامسات شباب البحرين وقواها الوطنية ليلاً كلها تدل على إعداد العدة للغد، ولم يأت الغد بالفعل حتى كان كل شيء جاهزاً بعفوية مطلقة.عند فجر يوم الجمعة تهامس الأباء والأبناء عند صلاة الفجر، وتخابر الأهل والرجال عن صلاة الجمعة 12 مارس 1965 التي ستقام في مسجد الشيخ حمد فتقاطر الناس من كل حدب وصوب. في ذاك اليوم امتلأ جامع الشيخ حمد بالمصلين كما لم يمتلئ من قبل. وخطب خطيب الجمعة خطبته وصلى المصلون، وكان أول من خرج من المصلين شاب في عنفوان شبابه مسحوراً بشخصية الرئيس جمال عبدالناصر وخطاباته وطريقة خطابته، وقف يوسف عبدالملك وهو من المحرق وتحديداً فريق «ستيشن - محطة الباصات القديمة»، وقف على التلة العالية عند باب المسجد وأخرج من جيبه ورقة وألقى خطاباً تحريضياً من الطراز الأول وحث الناس على التظاهر، وهتف (ياحرية هلي هلي/ خلي لستعمار يولي) وأخرجت اليافظات من تحت الثياب وسارت المظاهرات تجوب شوارع المحرق وتطالب بوقف تسريح عمال بابكو، وكانت البداية وجاء أهل البحرين كل أهل البحرين من القرى والمدن إلى المحرق.جرت المصادمات وعجزت الشرطة عن إخماد هذا التحرك فأستعانت الداخلية بطائرة مروحية من الجيش البريطاني وكتب أسفل الطائرة على قماش أبيض الصق في بطن الطائرة «شرطة البحرين!». وقامت هذه الطائرة بعد أن انضمت لها طائرة أخرى بإمطار المتظاهرين من الجو بمسيلات الدموع التي غطى سحابها جميع أحياء وشوارع وبيوت المحرق. واختنق الرجال والنساء والأطفال.هناك الكثير من التفاصيل المهمة جداً ليوميات انتفاضة مارس المجيدة، لكن سيكون مكانها غير هذه المساحة المحدودة، وقد استمرت الانتفاضة لأكثر من شهرين عجزت أجهزة الأمن من إخمادها لتؤكد صدقية أبناء هذا الشعب ووقوفه صفاً واحداً في سبيل تحقيق مطالبه العادلة.
الوصلة
:http://www.alwasatnews.com/newspager_pages/print_art.aspx?news_id=114845&news_type=LOC