الحديث عن المذبحة
قاسم حسين
لم يكن الكاتب الاسكتلندي هاري سكوت جيبون في مساء 21 ديسمبر/ 1963، يدرك أنه سيكون شاهداً على انطلاق الشرارة الأولى للمذبحة في جزيرة قبرص.في ذلك المساء، كان يتناول عشاءه في أحد مطاعم نيقوسيا، وعلى مقربة منه، تم إيقاف سيارتين تقلان عشرة من القبارصة الأتراك، وتصفيتهم في الشارع أمام أنظار المارة، لتبدأ أول فصول المذبحة.بعد ربع قرن، انطلقت مذبحةٌ أخرى في البوسنة، حصدت 250 ألف ضحية، في 150 مقبرة جماعية، و900 مكان احتجاز لأكثر من نصف مليون إنسان، وعندما سأل المراسل والمذيع المعروف تيم سيباستيان مسئولاً أميركياًً: لماذا لم تتم محاسبة مرتكبي المذبحة؟ أجابه: «يجب أن نبتعد عن استخدام كلمة مذبحة، والاكتفاء بكلمة التطهير العرقي»! فسأله: لماذا؟ فأجاب: «لأن هذه الكلمة تفرض على العالم التحرّك وفق البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة لمنعها»
. كان القرار الغربي ألاّ يستخدموا هذه الكلمة البشعة، ومع ذلك دفعت الأمانة الصحافية جيبون إلى كتابة أحد أهم الكتب التوثيقية عن المشكلة القبرصية «ملفات المذبحة» (The Genocide Files). إن منع استخدام كلمة المذبحة لم يوقف سفك الدماء، وقتل الأبرياء لمدة 11 عاماً، وتفتيت الجزيرة الواحدة إلى شطرين منقسمين على نفسهما حتى الآن. ومعالجة النار لم تكن يوماً بإنكار وجودها، بينما توشك أن تحرق الجميع. هناك جزرٌ أخرى أيضاً، في بقع أخرى من العالم، تعيش انقساماً طائفياً أيضاً، وتلعب أطرافٌ متمصلحة بهذه الورقة حتى يخلو لها الجو وتضمن استمرار امتيازاتها، فتشغل أبناء الشعب ببعضه بعضاً، في خلافاتٍ مذهبيةٍ وطائفيةٍ عقيمةٍ، لن يجني منها الشعب إلاّ الشوك والجوع والعلقم.
في تلك الجزر، حيث يُمارس التمييز (عيني عينك)، من يتكلّم عن ممارسات التمييز التي ضاقت بها الأرض والسماء، يُتهم هو بالتمييز وإثارة النعرات الطائفية، فنحن والحمد لله ليس لدينا تمييزٌ ولا تفرقةٌ... ولا هم يحزنون!عليك أن تسكت على ما يجري، مهما فاحت رائحته وزكمت الأنوف، ومهما ساءت ممارساته وعمّت حتى أعمت. عليك أن تسكت وإلاّ فإنك طائفي ومثير للفتن!تتكلّم عن وزاراتٍ كاملةٍ سقطت في أحضان بعض القوى السياسية الدينية، بعيداً عن مصلحة الدولة وحساباتها، أو تم تسليمها إلى قوى معينة تلعب بها كما تلعب بالكرة، مقابل مواقف وولاءات، فيردّون عليك: أنت حاقدٌ وعميلٌ ولديك ارتباطاتٌ بالخارج! متى إذاً يمكن اقتلاع آفة التمييز الذي ينخر في العظام؟المطلوب ليس فقط ألاّ تتكلم عن التمييز، وإنما ألاّ تخطر هذه الكلمة البشعة على بالك، لأنها غير موجودة أصلاً إلاّ في الخيال، لدى المعارضة التي لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب.
قبل فترة، التقيت نائباً برلمانياً سابقاً، كان شاهداً على ما جرى في ملف التأمينات، فتحدّث عن ما جرى من مكافأة بعض الكتل على موقفها، من مناصب في أربع وزارات. والأغرب أن أحد النواب السلف قال له ضاحكاً: «سيعطوننا الخدمة المدنية عشان ما يوظفون أحد من جماعتكم»، ولم أكد أصدّق أذني وأنا أسمع هذه الرواية البشعة. بلدٌ يعاني من سرطان يفتك بنسيجه المجتمعي، لا يريد أن يحدّثه الطبيب عن علته، ويرفض أي نقاش عن ضرورة المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص بين مواطنيه ويتكتّل نوابه ضد أي مقترح بقانون يجرّم التمييز، هل رأيتم كيف تحث الأوطان الضائعة خطاها على
طريق الانتحار الجماعي؟